تكاد تكون هذه المرة الاولى، الى وقت طويل مضى، تبدو وحدة الطائفة الدرزية في خطر منبثق منها، اكثر منه يهدّدها من خارج، كما في مرات عدة جبهتها. منها عندما اغتيل كمال جنبلاط عام 1977، ومنها محاولة اغتيال وليد جنبلاط عام 1982، ومنها حرب الجبل عام 1983، وصولاً الى آخرها كجزء من تداعيات 7 ايار 2008 بإزاء الصدام العسكري بين الحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الله في اكثر من منطقة في جبل لبنان الجنوبي وصولاً الى المقلب الجنوبي للشوف. حينذاك، مدركاً الخلل الفادح في موازين القوى العسكري لكنه المكلف، وسّط جنبلاط طلال أرسلان كي يتولى إدارة التفاوض مع حزب الله لإنهاء نزاع مسلح كبّد الطرفين قتلى.اعتادت الطائفة الدرزية وقادتها التهديد الوافد اليها من الخارج. عندما تجبه هذه الحال كانت تقف وراء زعيمها الاقوى، من غير ان يكون الوحيد. في «ثورة 1958» ــ مع أنها ليست حرباً ضد الدروز ــ كان جنبلاط الاب اقوى على الارض من مجيد ارسلان. اشتبكا قليلاً في ضهر البيدر عند مدخل الشوف، ثم جمعهما شيخ العقل محمد ابو شقرا وصالحهما. مع ذلك، ظل جنبلاط قائد الدروز ضد عهد كميل شمعون بينما أرسلان الاب الى جانب رئيس الجمهورية. في حرب الجبل عام 1983، تكرر المشهد. جنبلاط الابن قائد تلك الحرب مع ان ارسلان الاب كان لا يزال على قيد الحياة. اتفقا في ظل شيخ العقل نفسه على حماية الطائفة ووحدتها ضد خطر القوات اللبنانية آنذاك، فأُسلِسَ القياد لجنبلاط الذي خرج منها راسماً بنفسه حدود الامارة الدرزية آنذاك. بيد انها امارته هو بلا شركاء. هذه المرة المشهد مغاير تماماً.
احداث متتالية متنقلة في الاشهر الاخيرة ما بين عين دارة والجاهلية والشويفات وصولاً الى قبرشمون الاحد، أفصحت عن نزاع داخل قادة الطائفة الدرزية لم يعد سراً. له اكثر من وجه. امتداداته تصل ايضاً الى اكثر من فريق كنظام الرئيس بشار الاسد اذ تنقسم على الموقف منه، كما على الموقف من الدور الذي يقتضي ان يضطلع به دروز سوريا في الحرب السورية. تنقسم ايضاً على الموقف من سلاح حزب الله وفائض القوة الذي يتمتع به. ثمة فريق ثالث رئيسي في المعادلة تنقسم من حوله الطائفة، محوره الموقف من رئيس الجمهورية ميشال عون. ليس سراً، كذلك، ان العهد يدعم ارسلان، وخاض معركة توزير ممثل له في حكومة الرئيس سعد الحريري بعدما حالت اسباب شتى دون توزير ارسلان نفسه. قدّم له نائبين عونيين كي يرئس كتلة في البرلمان هي في الاصل جزء لا يتجزأ من كتلة لبنان القوي. ثم كانت مفاجأة الاحد والاثنين ان ينزل، للمرة الاولى على نحو غير مألوف عن قصر خلدة، انصار لارسلان لقطع طرق رئيسية واحراق دواليب بعيداً من خلدة حتى، ويرسلون للمرة الاولى كذلك اشارة ذات مغزى: لدى الدروز شارع آخر غير الشارع الجنبلاطي.
ليس سراً ايضاً ان جنبلاط هادن رئيس الجمهورية اكثر من مرة، وبينهما من الماضي العدائي ــ منذ سوق الغرب الاولى في ايلول 1983 الى سوق الغرب الثانية في آب 1989 الى سوق الغرب الثالثة الاحد الفائت بإزاء ما اطلقه منها الوزير جبران باسيل ــ ما يتعذر ترميمه أو نسيانه. مع ذلك اقترع وكتلته لانتخابه رئيساً للجمهورية، ثم انضم ــ من غير ان يكون شريكاً ــ الى تسوية 2016. سلّم على مضض بالنتائج التي توقّعها سلفاً لانتخابات 2018 مذ وُضع قانونها. ثم كان آخر تسليم له عندما قبل ــ على مضض ايضاً ــ بالتخلي عن المقعد الدرزي الثالث في ثالثة حكومات الحريري، وجيّره الى عون كي يسمّي هو الدرزي الثالث فيه، لا الى حليفه المفترض حينذاك الحريري.
مع ذلك كله، انفجر النزاع الدرزي ــ الدرزي في الشارع، ومن داخل الطائفة. من صنع اهل البيت، الا ان اكثر من فريق بات معنياً به، من غير ان يعني ذلك انه مستفيد منه. ليس هذا النزاع، غير المستجد ولا العفوي طبعاً، سوى واحدة من الحلقات التي تكفلت بها تسوية 2016 على طريق بناء توازنات داخلية جديدة، لا تمت بصلة الى حقبتين متتاليتين: اولاهما، تلك المنبثقة من النظام الذي أرساه وجود سوريا وجيشها في لبنان، وكان جنبلاط ذا دور بالغ الاهمية فيه، مسموع الكلمة، فيما علاقة ارسلان بالرئيس السوري لا تتعدى كونها دفاعية من اجل إبقائه داخل السلطة فحسب في مقعد نيابي وآخر وزاري. ثانية الحقبتين هي مرحلة انقسام البلاد بين فريقي 8 و14 آذار، وكلا قطبي الطائفة الدرزية في موقع مناوئ تماماً للآخر. فإذا التحالفان العريضان يتحللان.
لأول مرة يقطع أنصار أرسلان الطرق: شارع درزي في مقابل شارع درزي


من الواضح ان المهمة الرئيسية لتسوية 2016 تقويض هاتين الحقبتين. في الواقع حققت نجاحاً مهماً على صعيد تفكيك التحالفات تلك، وباتت الآن في صدد انهاء ادوار رجالها.
فريقان رئيسيان، من غير ان يكونا متورطين مباشرة في الاشتباك الدرزي ــ الدرزي، يُفصح دوراهما عن انهما ليسا متفرجين على ما تشهده الطائفة تلك:
اول الفريقين حزب الله الذي يشوب علاقته بجنبلاط تردٍ مفتوح على ملفات اقليمية ومحلية وفيرة، من غير ان يفضي الى صدام لا يريده الطرفان. ما قاله الوزير محمود قماطي من خلدة، ليل الاحد، يكاد يختصر موقف الحزب، ليس مما حصل في ذلك اليوم فحسب، بل ايضاً مما يقتضي ان يرافق المرحلة المقبلة. بعدما تحدّث قماطي عن الاستقرار، وجه رسالتين سلبيتين الى جنبلاط ضمرتا تبنّياً لموقفي ارسلان وباسيل من احداث الاحد: حينما قال ان لا منطقة موصدة في وجه اي فريق، وحينما تكلم عن الحق في الموقف السياسي. كلاهما كانا مصدر اشكال درزي ــ مسيحي عندما ربط الوزير اكرم شهيب دخول باسيل الى قرى قضاء عاليه بتخليه عن نبرة التصعيد في خطبه. ثم أضحى الاشكال درزياً - درزياً في الشارع بفعل الاحتقان.
ثاني الفريقين هو التيار الوطني الحر الذي يخوض بدوره مواجهة مع جنبلاط، لكن بمضمون غير «عقائدي» كالذي مع حزب الله، بل محض محلي، مرتبط بالتمثيل الانتخابي والانتشار الحزبي. في حساب باسيل اعادة التوازن السياسي الى جبل لبنان الجنوبي، مع جنبلاط مسيحياً، ومعه درزياً ايضاً، بعدما بات له منذ انتخابات 2018 نائبان في عاليه، احدهما درزي والآخر ماروني، واثنان آخران مارونيان في الشوف، اصبح له موطئ قدم بخطاب سياسي يريد باسيل ان يشبهه هو، ورئيس الجمهورية حتماً، ولا يشبه في اي حال «خصوصية الجبل» التي غالباً ما تحدث عنها الزعيم الدرزي.