«عندما أنظر إلى ابنتي أرى فيها ملامحي. وعندما تنظر إليّ، تبحث في وجهي عن أصل ملامحها. لم أحظَ بهذه الفرصة العظيمة قط. قد يبدو الأمر بسيطاً لمن لم يختبر تجربة التبنّي، لأنه شعور لن يستطيع أحد وصفه ما لم يكن محروماً من معرفة جذوره». هكذا استعرض دايفيد يان بان، الأربعيني الذي ولد لعائلة لبنانية من النبطية وتبنّته عائلة هولندية، تجربته في مؤتمر «التبنّي الدولي عبر لبنان: سيرة حرب منسية» الذي نظّمته جمعية «بدائل» الجمعة الفائت.شهادة دايفيد كانت واحدة من عشرات وثّقتها الجمعية لتسليط الضوء على تجارب التبني في لبنان، في ظلّ فوضى تتمثل بالتكتم على الوثائق بهدف إخفاء معلومات عن الطفل المتبنى، ما يزيد من معاناته ويعرقل رحلته للبحث عن أصوله.
الجمعية رصدت نحو 3471 حالة تبنٍّ منذ الخمسينيات. إلا أن اثنين في المئة، فقط، من هذه الحالات موثّقة بملفات واضحة تُبيّن تاريخ التبني والأهالي البيولوجيين وغيرها من المعلومات التي تؤرّخ أصول الطفل وجذوره، «وهو ما يؤكد أن المشكلة الأساسية في ملف التبنّي تكمن في التوثيق»، بحسب الخبيرة في الرعاية الأسرية البديلة المديرة التنفيذية لـ «بدائل» زينة علّوش، مُشيرةً إلى أن «غالبية ممارسات التبني في هذا البلد تشبه عمليات الإتجار بالبشر لأنها مرفقة بعمليات تزوير فاضحة». واللافت هو ما كشفته الجمعية، في المؤتمر، حول تورّط محامين ومخاتير وعاملين في سفارات أجنبية في تزوير وثائق تسهيلاً لعمليات تبني أطفال إلى مختلف البلدان الأوروبية والعربية. وأوضحت أن أكثرية الأطفال الذين تم تبنّيهم، كانت وجهتهم هولندا، تليها فرنسا فالدنمارك ثم أميركا وسويسرا والعراق وسوريا واليمن (...).
الجمعية ركّزت على التداعيات النفسية التي يسببها التبني لجهة أزمة الهوية والانتماء، خصوصاً في الحالات التي لا يعرف فيها الطفل أهله البيولوجيين، واستعرضت التوجهات العالمية التي تبحث جدياً في اعتماد التبني المفتوح (حيث يتم الحفاظ على سجلات التبني من دون تغيير وبالاتفاق بين الأهالي بالتبني والأهالي البيولوجيين)، فيما أثارت بعض المداخلات ضرورة التصويب على الواقع الفوضوي للتبني، وليس على تجربة التبني بحدّ ذاتها.
أكثر من 3400 حالة تبنٍّ منذ الخمسينيات اثنان في المئة منها فقط موثّقة بشكل شفّاف


المحامية ماري زلزل أشارت إلى «غياب الأطر الحقوقية المدنية التي ترعى عملية الفصل والإيداع والإحالة إلى التبنّي»، لافتةً إلى أن لبنان لم يوقّع اتفاقية لاهاي عام 1993 التي تكرّس حق الطفل في معرفة جذوره. ولفتت إلى أن «الدولة وهبت الطوائف (غير الإسلامية) صلاحية التبني وسلّمتها كل المهام التي تندرج ضمنها، ما ساهم في تدهور هذا الملف (...) وطالما لا يوجد قانون مدني لا يمكن الحديث عن إصلاح». واعتبرت أن تجربة التبني قد تكون وسيلة فعّالة لتأمين حياة أفضل للكثير من الأطفال إذا ما ضُبطت ووُضعت تحت وصاية القوانين المدنية. وهذا ما ينسجم مع ما أثارته إحدى الأمهات التي اضطرّت للتخلّي عن طفلتها الرضيعة بسبب ولادتها خارج نطاق الزواج عندما كانت في الـ19 من العمر، «بسبب عدم تقبّل المجتمع للطفل ونبذه وحرمانه من أبسط حقوقه لأنه مولود غير شرعي، في غياب قوانين مدنية وفي ظلّ وجود قانون يحرم الأم من منح جنسيتها لأولادها، وسط سيطرة شبه كاملة للمؤسسات الدينية والطائفية». وفي هذا السياق، كشفت علّوش «تورّط مؤسسات دينية رعائية في ملفات التبني وما رافقها من تزوير مستندات ووثائق بهدف الحصول على أموال تحت ذريعة مساعدة الأطفال».
وفي سياق البحث عن توصيات للتخفيف من التبني غير الشرعي، أجمع المؤتمرون على ضرورة تعزيز الحماية اللازمة للأم المنفردة من أجل الإبقاء على الأطفال المولودين خارج نطاق الزواج، مع الإقرار بصعوبة الأمر.
وربط المؤتمر النظام الرعائي المؤسساتي القائم في لبنان بمسألة التبني غير الشرعي عبر الدول. وأوضحت علوش أنّ «نظام الرعاية البديلة يُسهّل عمليات فصل الطفل عن عائلته، وبالتالي يسهّل عمليات التبني»، ودعت إلى أن يحذو لبنان حذو البلدان التي تعمل على إقفال المؤسسات الرعائية واستبدالها بأنظمة وقاية من الفصل عبر دعم الطفل في أسرته.