في السنوات الأخيرة، لم تسجل أي مبادرة لبنانية جدية على المستوى الرسمي في مواجهة هذا الملف المطروح على الطاولة الإقليمية الدولية منذ سنوات. لا بل إن لبنان ألّف لجنة للحوار اللبناني - الفلسطيني عام 2014، كان أبرزَ إنجازاتها حتى اليوم، وهي التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، تقريرٌ صادر بإشرافها عن مديرية الإحصاء خفض عدد فلسطينيي لبنان إلى 174 ألفاً. هذا الرقم لا يزال يثير الريبة لكونه يخالف كل الأرقام التي تعمل بها الأونروا ومنظمات دولية ويتحدث عنها لبنان في شكل رسمي، إضافة إلى طرح علامات استفهام عن الجهة المخولة هذا التعداد وصدقيتها وغياب أجهزة أمنية وإدارية مختصة عنه. وهو كان أول الغيث في إثارة مخاوف حقيقية من أن خفض العدد مقدمة لتمرير صفقة ما تجعل من السهل تذويب هذا العدد، الضئيل قياساً إلى العدد الرسمي المتداول ويناهز 450 ألف لاجئ، في نسيج المجتمع اللبناني الذي لا يحتمل مجدداً هزة إضافية بعد هزة مرسوم التجنيس عام 1994. وهذا في حد ذاته تغطية مسبقة لمشروع بدأت تفاصيله تتكشف، إضافة إلى تفاصيل تتعلق بوضع المخيمات وبالتجمعات الفلسطينية. في وقت تغطي السلطة اللبنانية، بما فيها القوى السياسية التي ترفع شعار محاربة التوطين، مشاريع ودراسات واقتراحات تصب في منحى التوطين نفسه.
في السنوات الأخيرة لم تسجَّل أيّ مبادرة لبنانية جدية في مواجهة ملف التوطين
في المقابل، لا يزال لبنان غارقاً في أزمة النازحين السوريين، وسط المزايدات السياسية والإعلامية بين معارضين لعودتهم أو لبقائهم، حتى أعداد وجود النازحين لا تزال عرضة للتجاذب السياسي، كما الجهات المخولة تأمين عودتهم والتنسيق مع سوريا. وتبدو واضحةً موسمية التعامل مع هذا الملف، لأنه يطفو إلى السطح مع أي مؤتمر دولي ينتج مساعدات ويضخ أموالاً في لبنان، لأن المساعدات الأممية والدولية أكبر مصدر للهدر والفساد أيضاً، إذ تستفيد منها أكثر من جهة لبنانية رسمية. وبعدما تحوّل خبر النازحين السوريين خبراً عادياً، تأتي مقاربة الوجود السوري وفقاً لرؤية «سيدر »التي تتمسك بها حكومة لبنان، ليعيد طرح الملف من زاوية العمالة السورية وضرورة تشغيلها كما اللبنانيون، وفق ما قاله الحريري، وهذا يعني تغطية شرعية للنازحين من باب التوظيف.
تمثل التحديات الاقتصادية التي يعيشها لبنان حالياً، إحدى أوجَه الذرائع التي يستخدمها المجتمع الدولي والإقليمي لإغراء لبنان بالوعود المالية لتغطية بقاء السوريين في لبنان، فلا يهاجرون إلى اوروبا، ولا يعودون إلى سوريا قبل الحلّ السياسي الشامل، ولبقاء الفلسطينيين، توطئة لصفقة سياسية إقليمية دولية، برعاية الدول العربية المعنية. من هنا يلمّح رسميون إلى أنه لا يمكن فهم الإصرار على تمرير موازنة عام 2019 كما أقرت، إلا أنها مقصودة ومطلوبة، من ضمن مسار عام متدهور أصلاً، لتهيئة الأجواء الملائمة لأيّ صفقة تعقد في مناخ إقليمي ملائم. إذ لا يعقل أن تُتجاهَل الاعتراضات والإضرابات، من دون وجود هدف أبعد من إصدار موازنة وقد تعدت مهلة إصدارها. ما يطرح بجدية احتمال وجود قطبة خفيّة، ليس على قاعدة هاجس المؤامرة، بل على قاعدة ما يدور من واشنطن إلى باريس والبحرين والرياض وإسرائيل، لتمرير صفقة ما تحت ستار ضخّ الأموال وإنعاش الاقتصاد. فأي حل لا يفرض من منتديات وعواصم القرار، إلا بعد تهيئة الأجواء المناسبة، إما حرباً عسكرية أو اقتصادية. وهي ليست المرة الأولى التي تطرح فيها مقايضات كهذه على مستويات مختلفة، منذ مشروع القريعة برعاية الرئيس رفيق الحريري إلى المبادرة العربية بنسختها الأولى، وصولاً إلى كل ما يحيط بموضوع النازحين وتغطية كل ذلك بستار إنساني بحت. الإيجابية الوحيدة حتى الآن أن الاقتراحات تدور في فلك الضغط المالي والاقتصادي، على قساوته، وليس العسكري.