شابٌّ يلفُّ السندويشات ويُقدّم الطعام إلى الزبائن في أحد المطاعم. هو في الوقت نفسه رجل أمن لا يزال في الخدمة. تسأل عن السبب، فيُجيب بأنّ راتبه لا يكفيه لإعالة عائلته، فاختار العمل سِرّاً عن رؤسائه، ليحيا بكرامة ولا ينزلق إلى الرشوة والفساد. في مكان آخر، يشارك عشرات المسنّين في اعتصام العسكريين المتقاعدين. بعضهم تجاوز السبعين من العمر. بعض هؤلاء كان قبل سنين يُمسك بمفاصل أمنية في البلاد، لكنّهم اليوم يُطالبون بالإبقاء على مكتسباتهم، رأفةً بهم وبعائلاتهم.الخوف على «العيش بكرامة» لا يقتصر على المتقاعدين. صحيح أنّ أفراد المؤسسات العسكرية وضباطها ممنوعون من التعبير عن مواقفهم، لكنهم بعيداً عن الكاميرات يُكثرون من التعبير عن الامتعاض. على حاجز لأحد الأجهزة يستوقفك العناصر ليسألوك عن تطوّرات نقاش الموازنة. يُدرك العسكريون والأمنيون أن «قضيتهم» تعرّضت للشيطنة. وهم يعلمون أن تعويضات نهاية الخدمة لكبار الضباط مرتفعة. لكن ذلك لا يعني أن أحوالهم جيدة. الجنود والدركيون وصغار الرتباء في مختلف الأجهزة، فقراء، بكل ما تعنيه هذه الكلمة. وهؤلاء تطوّعوا في الأسلاك العسكرية والامنية، بناءً على «اتفاق» مع الدولة، يمنحهم التعويضات التي يحصلون عليها حالياً. وفي الأيام الأخيرة، عندما بُحث في إمكان حسم بدلات التجهيزات والألبسة من رواتب المتقاعدين، كان الذين لا يزالون في الخدمة أكثر قلقاً على مستقبلهم. يذكّرون بأنّ سلسلة الرتب والرواتب منحت موظفي القطاع العام زيادات كبيرة على أساس الراتب، فيما بقي أساس راتب العسكريين منخفضاً، بذريعة وجود تلك البدلات. وأيّ مس بها يعني مساً بأساس دخل رجل الجيش والأمن.
يقول عميد (في الخدمة الفعلية) لـ«الأخبار»: «وفق النظام التقاعدي، هذا حقي، كيف يسمح أي كان بأن تنتزعه منّي؟». يضيف زميل له: «هذه النسب التي يُراد خفضها اليوم، أنا دخلت السلك على أساسها. كيف تُغيِّر العقد بعدما قضيت عمري في الخدمة؟ هذا تزوير واحتيال». يتحدث هذا الضابط عن بدعة مقارنة العميد بالمدير العام ليقول: «كيف يستسهلون الاحتجاج على أنّ المدير العام المدني لن يقبض تعويضات نهاية خدمة، فيما يحصل عليها العميد؟ هل أخذوا بالاعتبار كافة المخاطر والسنوات التي قضاها الضابط للوصول إلى رتبته الحالية؟».
«هل نسوا أن الإرهاب الإسرائيلي لا يزال جاثماً على حدودنا؟ هل نسوا أن خلايا الإرهاب التكفيري تتحيّن الفرص للانقضاض والضرب للثأر للخسارة التي مُنيت بها»، يقول ضابطٌ آخر، مضيفاً: «هذا إرهابٌ نفسي ومعنوي لنا وتهديداً للقمة عيشنا ولقمة عائلاتنا؟ هل يعلم هؤلاء المسؤولون كيف يُجهَّز الجندي الإسرائيلي والمخصصات التي يحصل عليها؟». ويُعلّق مستنكراً: « هل هناك هدف لضرب الجيش؟ كيف يثق العسكري بمؤسسته بعد اليوم؟». يدعمه زميل له بالقول: «يحاربوننا في رواتبنا وصحتنا وضماننا، وحتى في تعليم أولادنا... إن كان لا فائدة من الجيش، فألغوه».
يُحمّل العسكريون والضابط المسؤولية لقادتهم الذين لم يرفعوا الصوت احتجاجاً على ما يُقترح لخفض رواتب العسكريين وتعويضاتهم. يستغربون، وهم ليسوا جميعاً من العاملين في الجيش، أن يكون العماد جوزف عون في ظل هذه المعمعة في الولايات المتحدة الأميركية. وفي السياق نفسه، يرى مسؤول أمني رفيع المستوى أن ما وصلت إليه النقاشات بشأن رواتب العاملين في الأسلاك العسكرية والأمنية مردّه إلى انكفاء الجيش، ومديرية الاستخبارات، عن أداء دور سياسي. يقول: «في العادة، تكون للمؤسسة العسكرية علاقة مميزة بعشرات النواب والوزراء، الذين يدافعون عن حقوق أبنائها. في العهد الحالي، ابتعدت قيادة الجيش عن نسج علاقات مع القوى السياسية. وعندما احتجنا لمدد سياسي، لم يقف التيار الوطني الحر إلى جانبنا». ويعلّق ضابط مطلع على تقارير «الأمن العسكري» في أحد الأسلاك قائلاً: «وزير الخارجية جبران باسيل قدّم سلسلة الرتب والرواتب كإنجاز يساهم في تشجيع الشباب المسيحيين على الانخراط في الجيش والأجهزة الأمنية. وبعد النقاش الجاري، كيف سيشجّعون الشباب اللبنانيين عامة، والمسيحيين خاصة، على التطوع؟». وبرأيه، إن الجيش اضطر إلى «تغطية تحركات العسكريين المتقاعدين، تعويضاً عن فقدانه لشبكة أمان سياسية».
ما يُحكى اليوم عن تراجع السلطة السياسية عن «أفكار» خفض رواتب العسكريين وتعويضاتهم لا يُطمئن أبناء «السلك». هم لا يثقون بالسياسيين الذين «يتعاملون معنا بأسلوب خسيس». ورغم اعتراضهم على بعض ما يقوم به المتقاعدون في اعتصاماتهم، إلا أنهم يرون فيه دفاعاً عن حقوقهم.