«جرح الكابل الكهربائي يدي وبقيتُ أنزف لبضعة أيام»، قال الطفل غيث (12 عاما) وهو يشرح «عملية» الضرب التي كان يتعرّض لها بشكل دوري في إحدى المدارس الحكومية في محافظة بعلبك - الهرمل قبل أن يترك المدرسة.في مطلع شباط الماضي، هوت معلمة في مدرسة حكومية في جبل لبنان بكتاب على رأس الطالب نور (الصف الثالث ابتدائي)، بسبب إلحاحه في طلب الذهاب الى الحمام، ما تسبب بكسر سنّيه الأماميتين.
قبلها، خلال العام الدراسي 2017 - 2018، كسرت معلمة في مدرسة خاصة في محافظة جبل لبنان أنف شربل (10 أعوام) بعدما طلب منها التوقف عن ضرب زميله!

لا إجراءات ضد المعتدين

في تشرين الثاني 2018، ضربت معلمة في مدرسة حكومية في محافظة الشمال الطالبة نور بعدما اتهمتها باستخدام آلة حاسبة لحل مسألة رياضية. والد الطالبة، أحمد، أكد ان ابنته «موهوبة في الرياضيات وعلاماتها وتقاريرها المدرسية كلها جيدة مع تعليقات ايجابية حول سلوكها، ومع ذلك عندما حلت المعادلة بسرعة اتهمتها المعلمة بالغش، وشدت شعرها وقرصتها. كما أن المديرة التي حضرت الى الصف شاركت في الضرب». الوالد أكد ان الطفلة عندما عادت الى المنزل «كان وجهها منتفخا وشديد الحمرة. لم تكن مجرد صفعة بل ضرباً قوياً». بعد ثلاثة اسابيع ورغم الشكاوى التي تقدم بها الوالد الى المنطقة التربوية، لم تتخذ اجراءات بحق المعلمة او المديرة، فعمد الى نقل الطفلة الى مدرسة اخرى.


هذه الشهادات، وغيرها، وثّقتها منظّمة «هيومن رايتس وتش» في تقرير أطلقته، أمس، بعنوان «ما بدي ابني ينضرب - العقاب البدني في المدارس اللبنانية»، في فندق «راديسون بلو» في بيروت. التقرير وثّق 51 حالة عقاب بدني خلال العام الدراسي الجاري، في مدارس حكومية وخاصة في كل المناطق اللبنانية. وأوضح أن «العقاب الشائع يتضمن الإهانة، الشتائم، الصفع على الوجه أو الضرب على اليدين. كما ذكر بعض الطلاب أنواع إساءة أكثر قسوة، مثل الضرب بالعصي والأنابيب المطاطية والأسلاك الكهربائية. وفي بعض حالات التأديب المزعومة تفاقم الوضع ليصبح اعتداء خطيراً ويسبب الأذى». ولفت الى أنه «غالبا ما يرد مسؤولو المدارس شكاوى الأهل، وفي بعض الحالات عاود الأساتذة أو المديرون ضرب الطالب أو الطالبة مرة ثانية انتقاما»!
التقرير أشار الى 42 من حالات العقاب الموثقة (80%) طالت أطفالاً سوريين، وعزا ذلك الى أن هؤلاء «أكثر عرضة للانتهاكات في ظل جو سياسي مشحون بكراهية الأجانب»، وكذلك الى ارتفاع اعداد النازحين الملتحقين بالمدارس (التحق هذا العام 210 آلاف طفل سوري بالمدارس الحكومية ما يوازي الطلاب اللبنانيين، فيما التحق 65 الفاً بالمدارس الخاصة مقابل 700 الف لبناني). ولفت التقرير إلى أن «مدرستين حكوميتين في البقاع والشمال أصبحتا بلا طلاب سوريين بعدما امتنع الأهالي عن ارسال أولادهم الى صفوف بعد الظهر بسبب اعتداءات الموظفين».
وكان تقييم لاحتياجات الأطفال النازحين في 2012 خلص الى أن المعلمين غير المؤهلين والاستخدام السائد للعقاب البدني كانا من بين الأسباب الرئيسية لارتفاع معدلات ترك الدراسة وانخفاض معدلات الالتحاق بالتعليم الحكومي. كما بيّن مسح أجرته مجموعة من المنظمات غير الحكومية في تموز 2017 أن حوالي ثلثي الاطفال السوريين الذين اتصلوا بها لتعرضهم للاعتداء اللفظي او الجسدي في المدرسة تركوا الدراسة.

عنف «تاريخي»
ورغم أن وزارة التربية تحظر كل أشكال العقاب البدني للطلاب في المدارس الحكومية منذ عام 1974، يلفت التقرير إلى «تاريخ» من العنف على أيدي موظفي المدارس الإبتدائية والثانوية، مُشيرا الى أن المجلس الأعلى للطفولة وجد عام 1998 أنّ 40% من طلاب المدارس يعانون من أعمال عنف جسدي. وكانت المادة 186 من قانون العقوبات اللبناني تسمح، صراحة، باستخدام العقاب البدني من قبل الاهالي والمعلمين لتأديب الأطفال «في حدود العرف العام». ولكن، بعد عام 2014، عُدّلت المادة بعد انتشار فيديو على وسائل التواصل يظهر مدير مدرسة يضرب 3 اولاد بعصا لرسوبهم في الامتحان. ورغم ان المادة 186 لم تعد تعفي المعلمين من العقوبة الجزائية إلاّ أن «صيغتها المعدّلة لا تحظر بشكل صريح العقاب البدني في المدارس»، كما أن «القانون يواصل السماح للاهالي باستخدام التأديب البدني لأطفالهم».
وفي عام 2001 أصدرت وزارة التربية تعميما مفصلا ينطبق على موظفي المدارس الحكومية والخاصة يحظر العقاب البدني والإساءة اللفظية، «ولكن، نظرا لانعدام تطبيق القوانين فإن الإساءات لا تزال واسعة النطاق» بحسب التقرير. فيما تعود قلّة تسجيل الإنتهاكات الى عدم تجاوب المعنيين في وزارة التربية مع الشكاوى التي تحال اليها، والى عدم اعتماد الوزارة الشفافية في آلية المتابعة. ولفت إلى أن بعض الأهالي كانوا يعمدون إلى الملاحقات الجزائية نتيجة عدم ثقتهم بالوزارة.

لا آليات لمتابعة الشكاوى في الوزارة والتدخلات الحزبية تحول دون ردع المعتدين


اللافت هو ما أورده التقرير عن أن «بعض المعلمين يفلتون فعليا من العقاب بعد تدخلات سياسية». وأشار الى أن معلماً طرد بسبب اعتدائه جسديا على طالب، «ولكن اعيد تعيينه في اليوم التالي بسبب علاقاته الحزبية».
ومن الأمثلة الفاقعة على غياب الرقابة، يشير التقرير الى أنه تمت إحالة مدرسة حكومية بالكامل في جنوب بيروت الى وزارة التربية، بسبب تعرّض 11 طفلا للضرب «لكن لم تتخذ اي خطوات حتى أيلول 2018». كما أفلتت معلمة في مدرسة ابتدائية حكومية في محافظة الشمال من العقاب على الانتهاكات «الروتينية» التي كانت تقوم بها، كجعلها الطلاب يرفعون أصابعهم عاليا وضربهم بالمسطرة على أطراف أصابعهم. ونقل التقرير عن زميلتها ان طلابها كانوا «يأتون الي وأظافرهم مقلوعة. إنها تقنية تجعلهم لا ينسون الالم حتى في المنزل»، لافتةً الى أنها أبلغت هيئة المنطقة التربوية في محافظة الشمال، ولكن من دون أي نتيجة.

العنف يرفع منسوب التسرب

تنسجم خلاصات التقرير مع نتائج مسوحات أجريت في السنوات الأخيرة تؤكد أن العنف البدني يمارس في المدارس اللبنانية على نطاق واسع. ففي عام 2011، مثلا، أظهر مسح أجرته جامعة القديس يوسف وشمل مختلف المناطق أن 76% من تلامذة المدارس قالوا إنهم تعرّضوا لعنف جسدي من المعلمين والإداريين في المدارس (العينة شملت 1177 تلميذا). وشمل العنف أعمال الصفع على الوجه او الرأس، ليّ الآذان، شد الشعر، الضرب بمسطرة، الركل، الارغام على الركوع في وضع مؤلم او الربط بحزام او بحبل.
وفي العام نفسه، قال نحو 94% من الأطفال الذين شاركوا في مناقشات جماعية مركزة مع منظمة إنقاذ الطفولة إنهم تعرّضوا للعقاب البدني او المعاملة المهينة من الاداريين في المدرسة، وكان ذلك من الأسباب الرئيسية لانخفاض معدلات التسجيل وارتفاع معدلات ترك الدراسة.
إلى ذلك، بيّن مسح أجرته اليونيسف عام 2016 ان 65% من الأطفال السوريين و82% من الاطفال الفلسطينيين و57% من الاطفال اللبنانيين الذين تقل اعمارهم عن 14 سنة تعرّضوا للعنف في المدرسة والمنزل. كما خلصت دراسة اجرتها اليونيسف وبرنامج الامم المتحدة للمستوطنات البشرية في 2017 وشملت 353 اسرة لبنانية و 340 اسرة غير لبنانية في حي التبانة في طرابلس ان 33.6% من الاطفال حتى سن الـ 17 تعرضوا لنوع من التأديب العنيف في المدارس بما في ذلك العقاب البدني الشديد وأشكال اخرى من الاعتداء النفسي.