الآراء متضاربة إلى حد الانقسام. فئة أقلّوية، لكن تملك نفوذاً كبيراً، تريد أن تحيّد المصارف والشركات الكبرى عن تحمّل مسؤوليتها في تخفيض العجز، وفئة أخرى تعتبر أنه لم يعد بالإمكان الاستمرار في تحميل المواطنين تبعات السياسات الاقتصادية الفاشلة وإبعاد الكأس عن المصارف التي تراكم الثروات.تحت هذين الخيارين، تدور النقاشات الحكومية بشأن الموازنة. لكنّ أحداً لم يقل إن كانت هذه الإجراءات أم تلك ستنتشل لبنان من أزمته فعلاً. ليس النقاش هنا مرتبطاً بالعدالة الضريبية. فهذه يُفترض أن تكون أمراً بديهياً، بغض النظر عن تأثيرها على الاقتصاد. ولا يكفي في هذه الحالة أن تُرفع الضريبة على الفوائد على سبيل المثال. فتلك خطوة غير مرتبطة بمعايير العدالة، أضف إلى أن رئيس الحكومة لا يتردد في السعي إلى إعفاء المصارف منها. العدالة ستبقى غائبة طالما أن الفقير يدفع مثل الغني، أي طالما أن الضربية ليست تصاعدية، بغض النظر إن كانت ضريبة على الدخل أو على الفوائد أو على الشركات. تكفي الإشارة إلى أن 0.86% من مودعي المصارف يملكون ودائع تفوق 87 مليار دولار، مقابل 59% من المودعين الذين يملكون نحو مليار دولار لتقدير حجم استفادة كبار المودعين من النظام الحالي.
المفارقة أنه حتى لو تحققت هذه العدالة، فإن ذلك لا يعني أن العجز سينخفض. «تحفيز النمو هو الدواء الفعلي لتخفيض نسبة العجز والدين للناتج المحلي»، بحسب الخبير الاقتصادي نسيب غبريل. وعليه، فإن نسبة نمو وصلت إلى 0٫4 في المئة في عام 2018، هي نسبة لا يمكن رفعها في ظل الإجراءات المقترحة، بل تحتاج إلى خطوات جدية لتحفيز الاقتصاد ورفع النفقات الاستثمارية المرتبطة بالقطاعات الإنتاجية. فرفع مستوى الثقة وزيادة الاستثمارات يساهم تلقائياً في تخفيض العجز للناتج المحلي.
بالنسبة الى الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي، فإن عدم وجود سياسة اقتصادية هو العلّة الحقيقية للنظام، مشيراً إلى أنه لا يوجد بلد في العالم يعطي الأولوية للسياسة النقدية على حساب السياسة الاقتصادية. ويضيف: فكيف إذا كانت هذه السياسة قد اختزلت، على مدى 25 عاماً، بتثبيت سعر الصرف وبكلفة باهظة؟ يوضح يشوعي أنه «إذا كانت مهمة السياسة النقدية هي توفير السيولة الضرورية لعملية الإنتاج والاستهلاك من أجل تحفيز النمو والمحافظة على استقرار سعر صرف العملة المحلية، فهذا يعني أن تثبيت سعر الليرة هو الحلقة الأخيرة في سلسلة السياسة النقدية، وبالتالي فإنه يفترض أن يكون تحسين سعر الصرف نتيجة طبيعية لسياسة اقتصادية تحفّز القطاعات الإنتاجية، بما يساهم عملياً في زيادة النمو وتخفيض العجز.
ما سبق يشير إلى أن المشكلة الفعلية ليست في النفقات والإيرادات، وبالتالي فإن الإجراءات المؤلمة التي يكثر الحديث عنها ليست مُهمتها إنقاذ الاقتصاد، بل تجميل الموازنة أمام المانحين الدوليين، بإجراءات عقابية للمواطنين وحمائية لكبار النافذين الهاربين من الضرائب.
تقدّر الفوائد التي تدفع للمودعين سنوياً بنحو 14 مليار دولار، يذهب منها نحو مليارين ونصف المليار فوائد على ودائع غير المقيمين. وهي أموال تصدّر في معظمها إلى خارج البلاد، كنزف نقدي بالعملات الأجنبية. وإذ يضاف إلى تلك الأموال نحو 700 مليون دولار فوائد على سندات اليوروبوند المتداولة في الخارج، فإن مجموع ما يُدفع للخارج من دولارات، إضافة إلى العجز التجاري المقدر بـ 17 مليار دولار، يتخطى العشرين مليار دولار.
كيف يمكن تحصيل هذا المبلغ سنوياً؟ عملياً، هو يأتي من أربعة مصادر هي: تحويلات اللبنانيين، الاقتراض الخارجي، صادرات الخدمات ومن ضمنها السياحة، والتمويل السياسي الذي يشمل كل أنواع المساعدات التي تصل إلى لبنان، ومنها المساعدات للجمعيات والأحزاب، بغض النظر عن أهدافها. وتلك مصادر غير مستدامة بطبيعة الحال. وفي حالة مثل الحالة الراهنة التي يصفها صندوق النقد الدولي بالتباطؤ العالمي المزمن، يصبح بديهياً البحث عن بديل لها. فصندوق النقد يتوقع أن لا يشهد النمو العالمي أي معدلات عالية على مدى سنوات طويلة، بسبب انخفاض الطلب الاستهلاكي في العالم، وهذا سينعكس حكماً على أسعار النفط، المرشحة للانخفاض نتيجة انخفاض الطلب العالمي (الارتفاعات الحالية ليست مبنية على معايير السوق، بل هي ظرفية ومرتبطة بالعوامل الجيوسياسية، أي بمعنى آخر هي ارتفاع تضخمي بحت).
إسقاط انعكاسات هذا التباطؤ المزمن على الوضع اللبناني، سيعني عملياً أن حركة الرساميل العابرة للحدود ستتراجع بشكل مطرد، وكذلك تحويلات العاملين في الخارج، إضافة إلى الاستثمار الخارجي. أما المال السياسي، فينخفض بشكل مستمر وقد بدأت انعكاساته تظهر عبر انخفاض تمويل الجمعيات غير الحكومية. ونتيجة لتراكم المشكلات، لم يعد متوقعاً أن تزداد عائدات السياحة، بالرغم من الوعود المستمرة بصيف واعد. والأمر هنا لا يتعلق برفع الحظر عن سفر الخليجيين أو غيره، بل يرتبط بشكل وثيق بطبيعة المنتج السياحي والخدمات المتعلقة به، فلا الطاقة الاستيعابية للمطار كفيلة بتشجيع السائحين، ولا الأسعار المرتفعة للخدمات أو النقل كفيلة بتحفيز السياح على استبدال تركيا بلبنان، على سبيل المثال.
تخفيف عجز الخزينة ليس كافياً لإنقاذ الوضع: أين خطط تحفيز النمو؟


كل ذلك يشير إلى أن زيادة الحسابات الخارجية، إنما تتطلب الاستثمار في البنية التحتية، وتحفيز الاستثمارات المحلية لإنتاج الخدمات والسلع التي تستهلك محلياً والقابلة للتسويق خارجياً. لكن كيف يمكن تحفيز الاستثمارات في ظل سعر فائدة يتخطى 10 في المئة، وفي ظل أسعار عقارات لا تتواءم مع سياسة العرض والطلب، وفي ظل كلفة نقل مرتفعة (ازدحام، غياب النقل العام، تركز الخدمات في العاصمة...)، إضافة إلى غياب الخطط الحكومية لدعم الصناعات؟
باختصار، يزداد عدد المؤمنين بأن معالجة مشكلة الحاجة إلى الدولارات لم تعد ممكنة إلا بتغيير النموذج الاقتصادي ككل، أي إعطاء الأولوية لحل أزمة الاقتصاد، لا أزمة النقد. فأي أموال يمكن تحصيلها في الوضع الراهن لن تساهم سوى في تأجيل المشكلة، طالما أن النزف المستمر في الميزان التجاري سيأكل أي إيرادات يمكن تحصيلها، حتى لو انخفض عجز الموازنة مؤقتاً. وبالتالي، لا بديل من العمل على تخفيض العجز في الميزان التجاري، عبر إعداد خطط لتشجيع الصناعة والزراعة وتوفير السلع التي يحتاج إليها السوق بدل استيرادها. وهنا لا يُنظر لزيادة الضرائب على أنها زيادة للإيرادات بل كبح للنمو. ومع التأكيد على أهمية تعديل النظام الضريبي ليصبح أكثر عدالة، فإن ذلك لن يساهم في إيقاف النزف في هذا النمو. أي أن المعادلة ستكون الآتية: زيادة الضرائب بالمطلق تساهم في تباطؤ الاقتصاد، واستبدال النظام الضريبي الحالي بنظام أكثر عدالة، سيساهم في إنهاء مرحلة اللاعدالة الضريبية، لكن في كلتا الحالتين فإن أي إجراء معزول عن إجراءات تساهم في تحفيز النمو، لن يكون له أي تأثير إيجابي. وعليه، فإن تحفيز النمو سيكون كفيلاً بتكبير الاقتصاد، وبالتالي زيادة حجم الإيرادات. إذ إن زيادة حجم الأعمال وإنهاء حالة الركود سيعنيان تلقائياً زيادة واردات ضريبة الدخل. وهذا أمر جرى اختباره في اام 2018، إذ بالرغم من زيادة ضريبة أرباح الشركات من 15 إلى 17 في المئة، إلا أن النتيجة كانت انخفاضاً في إيرادات هذه الضريبة، بسبب الانكماش الاقتصادي.
أين الخطط الحكومية من كل هذا؟ عملياً، وبحسب مشروع الموازنة والنقاشات المرتبطة به، فإن الخطة هي: تخفيض العجز محاسبياً، بانتظار الحصول على قروض سيدر، مع افتراض أن تؤدي هذه القروض إلى تحفيز النمو. وهو افتراض أشبه ببيع السمك في البحر، في ظل غياب الدراسات والخطط التي تضمن استفادة الاقتصاد من هذه المشاريع (معظمها قديمة بمعطيات قديمة كانت بحوزة مجلس الإنماء والإعمار وقدمت إلى مؤتمر سيدر).