البلد مشغول بتصريحات وليد جنبلاط. أصلاً إنها إجازة عيد الفصح بالتقويم الشرقي، فلا ضير من التسلية. جنبلاط نفسه ترك البلاد مع زوجته إلى باريس. الوقت مناسب للاهتمام بأحفاده، الذين أبعدهم ابنه «الزعيم» المنتظر، النائب تيمور جنبلاط، إلى فرنسا، حيث لا يُلَوِّث البيئة معمل بيار فتّوش، ولا مطمر الناعمة ومكبّ الكوستابرافا... ولا معمل سبلين لصاحبه فلان الفلاني وورثته.في هذه الأثناء، يَلُوك بعض الإعلام جريمته بحقّ مزارع شبعا مستبشراً خيراً... أو شّراً. بعض الساسة، يحاول أن يستلهم منه «إشارات» عن المقبل من الأحداث، على اعتبار أن «انتيناته» السياسية ذات جودة عالية.
كان وليد جنبلاط يوماً ما، «اِنْفْلُوَنْسِرْ» (مُؤَثِّراً) بلغة التواصل الاجتماعي. وكان، فعل ماضي ناقص، أي أن تأثيره (جنبلاط) كان وانحسر. اندثر مع الأحداث، والتحوّلات، والتاريخ، الذي لا يرحم. أَثَّر في العام 2005 بـ«جماهير 14 آذار» يوم أعمى الحقد الأبصار، وألقى خطاباً «سياسياً» من وحي «animal planet». أَثَّر بالرئيس سعد الحريري بعدها لثلاث سنوات، قبل أن يرفع الراية البيضاء بحضرة النائب طلال أرسلان، مستسلماً من خطيئة تأثيره على فتنة 7 أيار 2008. بعدها بعام واحد، هزّ أركان 14 آذار بانعطافة 2 آب، ثم لَبَدَ حتى العام 2011، معتقداً أن بامكانه التأثير في أحداث سوريا. في سوريا لم يقصّر. موّل ودعم وأَلْهَم انفصاليين في السويداء وعملاء لـ«الموك» في درعا. حلّل دم السوريين أقارب اللبنانيين الذين يدّعي حمايتهم، وبيّض صفحة «جبهة النصرة» حتى ذبحت أهل جبل السّماق في إدلب والجنود اللبنانيين في عرسال. كانت الحرب السورية بمثابة بازار كبير وطاولة «روليت» عملاقة، لمُرَابِي المختارة.
ومنذ ذلك الحين، يلعب في بورصة النازحين، من كيس اللبنانيين ولبنان، على أمل أن يرتفع السعر. سعر التوطين.
كان وليد جنبلاط مؤثّراً. سار خلفه الحريري ورئيس القوات سمير جعجع وجوقة 14 آذار. هذه المرّة، الحريري في غير مكان، وجعجع لا يُلدغ من مهزوم مرتين، وأكثر... وحدهما فارس سعيد وأشرف ريفي تجرّآ على مجاراته، ربّما لأنهما لا يملكان شيئاً لخسارته.
قَلِقٌ جنبلاط، وقَلَقه مشروع. فتوريثه تيمور يبدو متعثّراً، وداليا ليست خياراً متاحاً. شركاته تتراجع عائداتها على نحو ملحوظ ومربك، والسعودية ما عادت تقدّم دنانير الذهب بالأكياس، إلّا لترامب. والدولة التي عكّز عليها جنبلاط طويلاً، ما عادت بقرةً حلوباً. حليبها لا يكفي لإطعام الجائعين من أبناء القرى التي انفجرت ديموغرافيا أهلها، بعد أن حرمها جنبلاط من الإنماء طويلاً، وأرادها «أوتيلاً» للنوم فحسب. أما المؤسسة الدينية، فيها اليوم من بات يسأل عن المصير. المقامرون بالسياسة والمستقبل عند المؤسسة الدينية الدرزية العميقة، أخطر من المقامرين بالمال.
خائف من أرسلان والوزير السابق وئام وهاب؟ طبعاً، وعليه أن يخاف أيضاً من «المجتمع المدني» في الشوف وعاليه. ما قبل النسبية، حتى المشوّهة، ليس كما بعدها.
متوتّر من التوازنات الجديدة؟ منطقي. الرئيس ميشال عون يضاعف توتّره: كلّما تراجع جنبلاط خطوة تقدّم عون نحوه، وتحالف الحريري مع جبران باسيل أكثر انتاجية من علاقته «المعقّدة» مع جنبلاط. أمّا الرئيس نبيه بري، فأعاد صياغة علاقاته مع القوى الأخرى من دون جنبلاط.
يبقى حزب الله. جنبلاط يصرخ ليسمع الحزب صوته. ألا يكفيه ما حصل عليه في الانتخابات النيابية من حزب الله؟ لا، يقول أريد ضمانات، ويرسل إشارات. ابتزاز لبناني مبتذل على قاعدة أعطوني كما تعطون غيري وإلّا! وإلّا ماذا؟ مزارع شبعا ليست لبنانية؟ خير...
من قال إن موقف جنبلاط يؤثّر قيد أنملة على مصير المزارع أو الحرب أو السلم مع العدوّ؟ ومن قال إن احتلال مزارع شبعا هو السبب في شرعية المقاومة؟ المقاومة باقية طالما بقيت إسرائيل، المشروع التوسّعي الاستعماري الاقتلاعي على أرض فلسطين. إسرائيل كيان بدستور بلا حدود.
وجنبلاط يعرف، وباعترافه، أن كفة الميزان تميل لصالح محور المقاومة في المنطقة، من فلسطين إلى أفغانستان، وأن الضغوط الأميركية مردّها الرغبة في التفاوض مع الأقوياء، لا المستسلمين.
يوم أمس، أعطى رئيس الاشتراكي حديثاً «غير مباشر» لموقع المدن الالكتروني، يقول فيه إن تصريحه مردّه «الخوف على مصير المزارع بعد قرار ترامب حول الجولان». وبالأمس أيضاً، شاع في الشويفات خبر تنازل مناصري الحزب التقدمي الاشتراكي عن الدعوى بحقّ الحزب الديموقراطي في قضية الحادث الذي أودى بحياة شاب من البلدة، عملاً بـ«خطّة الصلح» التي يرعاها رئيس الجمهورية. هل هي محاولات للنزول عن الشجرة؟ الأفضل لجنبلاط أن تكون كذلك، فحين تقع الخسارة من المهم أن يسارع الخاسر إلى الحدّ منها. أمّا الإيحاء بأن التحرّك الجنبلاطي على وقع الوعود الأميركية، ففيه مبالغة بالحجم والدور. إذا صدَق وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو وساعد جنبلاط في الحصول على الفيزا إلى أميركا كما وعده، عندها من الممكن أن يبدأ التفكير بوعود أخرى.
أما الآن، فلم يعد جنبلاط مسلّياً. بات مملاً... جداً.