لم تعد المؤسسات العسكرية منخرطة في العمل السياسي، كما كانت حالها سابقاً، وإن بتفاوت. تغيرت المرحلة التي كانت الأجهزة الأمنية تؤدي فيها أدواراً سياسية وأمنية وعسكرية، لم تكن مرسومة لها، إنما فرضتها الأحداث الأمنية والتطورات السياسية والفراغات الرئاسية المتتالية.وتداخل الأمن والسياسة ليس أمراً حديث العهد في لبنان، ففي منطقة تتحكم في عدد من دولها الأنظمة العسكرية، كانت السمة البارزة للبنان في المبدأ أنه لا يفضل حكم العسكر، ويؤيد فصل العسكريتاريا عن السلطة السياسية. مع ذلك، لم ينج من أن تقع هذه السلطة في فخ الأمن والعسكر، إما من خلال حقبات أمنية بامتياز، كما حصل في عهد الشهابية وما بعد الحرب أيضاً، أو من خلال تولي قادة عسكريين رئاسة الجمهورية، قبل الطائف وبعده، من اللواء فؤاد شهاب الى الرئيسين إميل لحود وميشال سليمان المنتقلين مباشرة من وزارة الدفاع الى القصر الجمهوري، وميشال عون في تجربة مغايرة، بعدما سكن القصر للمرة الأولى بلباسه العسكري وسكنه مرة ثانية ببدلة مدنية. قد تكون إحدى أهم المفارقات ألا يصل قادة عسكريون الى رئاسة مجلس النواب أو الحكومة (مع تسجيل خرق يتيم للعميد المتقاعد نور الدين الرفاعي بتوليه حكومة لشهرين في عهد الرئيس سليمان فرنجية) هذا إذا استثنينا رئاستَي فؤاد شهاب وميشال عون - المارونيين - للحكومة الانتقالية. لكن ذلك لم يمنع تداخل السلطة العسكرية بالسياسة في كل مستويات السلطة القائمة، سواء كان المعنيون في السلطة أو كانوا متقاعدين.
يحلو للمتقاعدين العسكريين، الى أي سلك انتموا، في الجيش أو قوى الأمن أو الأمن العام أو أمن الدولة وغيرها، أن يختاروا الحياة السياسية، التي يتعايشون معها ومع أركانها خلال خدمتهم: بعضهم يرغب في أن يكون سفيراً، وبعضهم الآخر وزيراً ونائباً، وآخرون يلجأون الى الأحزاب أو تجمعات وروابط سياسية، كما يحصل في الرابطة المارونية مثلاً، كي يظلوا في الشأن العام، ومن خلالها تأمين تقاطع مع الحياة السياسية.
عرفاً، كان الأمن العام الجهاز السياسي لرئيس الجمهورية، كما كان الجيش الأداة السياسية والعسكرية لرئيس الجمهورية أيضاً. متغيرات كثيرة لحقت بعد التسعينيات، وصولاً الى اليوم، مع إعادة رسم خريطة جديدة للأجهزة الأمنية، من خلال توزع طائفي لقادتها، ماروني لقيادة الجيش وشيعي للأمن العام وسني للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. كما لحظت أيضاً تغيراً لأدوارها التي تكرست أكثر فأكثر بعد عام 2005.
أظهر ريفي والحسن قوى الأمن الداخلي فريقا سياسياً الى جانب قوى 14 آذار


بين اللواء أشرف ريفي على رأس قوى الأمن الداخلي، ومن ثم اللواءين إبراهيم بصبوص وعماد عثمان، والعمادين ميشال سليمان وجان قهوجي في قيادة الجيش، والراحل اللواء وفيق جزيني، ومن ثم اللواء عباس إبراهيم على رأس جهاز الأمن العام، حصل تبدل كبير في دور الأجهزة الأمنية. تبدل لم يطل الوجه الأمني فحسب، بل الوجهة السياسية، وخصوصاً في الفترات التي كانت تحتدّ فيها الخلافات السياسية وتنقسم البلاد بين معسكرين، فضلاً عن الفراغ الرئاسي، ومتطلبات المرحلة التي كانت تفترض أدواراً سياسية لرجال الأمن.
لم تكن قوى الأمن الداخلي بعد عام 2005، في عهد ريفي، مجرد جهاز تابع لرئاسة الحكومة، سياسياً، اكثر مما هو تابع قانوناً لوزارة الداخلية. فالدور الذي قام به ريفي في تلك المرحلة وما بعدها كان دوراً سياسياً بامتياز. لأن ريفي فرض إيقاعاً مختلفاً - ومعه اللواء وسام الحسن - في إبراز دور قوى الأمن كطرف سياسي الى جانب قوى 14 آذار. كان ريفي واضحاً في التعبير عن التزامه السياسي لبنانياً ورأيه في ما يخص سوريا وحزب الله وقوى 8 آذار. لكن ريفي أيضاً قام بدور الوسيط، مع حزب الله، حين كانت الجسور مقطوعة بين الحزب والحريري وقوى 14 آذار. الوسيط بمعنى إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة لحلحلة العقد ونقل الرسائل وإبقاء السقف الأمني مضبوطاً حيث كانت تدعو الحاجة، وكانت المرات التي يتم التواصل فيها بين الطرفين لا تعدّ، في مرحلة الأزمات الأساسية.
قد يكون ريفي والحسن ساهما في تأطير قوى الأمن الى جانب المستقبل والرئيس فؤاد السنيورة والحريري، في شكل أوضح مما قام به أي جهاز أمني آخر مع طرف سياسي. وقد يكون هذا الانحياز الواضح ساهم في الإضاءة اليوم على تراجع دور قوى الأمن في السياسة. لا شك أن اختيار المدير العام لقوى الأمن الداخلي ورئيس فرع المعلومات الحاليين، اختيار سياسي أيضاً لمصلحة الحريري الذي لا يفوّت فرصة لتأكيد انسجامه مع المؤسسة وتأمين ما تراه مناسباً لها من حاجات. لكن دور المؤسسة في السياسة تراجع لأسباب موضوعية. فالمرحلة السياسية مختلفة تماماً، لجهة انتظام عمل المؤسسات بالحد الأدنى، والأهم انعدام الحاجة الى الدور السياسي المعتاد لقوى الأمن. فالحوار اليوم بات مفتوحاً بين القوى السياسية المعنية، ولم تعد هناك ضرورة الى قناة أمنية لرسائل بين حزب الله والحريري بعدما تحولت لقاءاتهما الى مباشرة وعلنية، وانتفت الحاجة الى إطار أمني يظلّل قوى 14 آذار التي لم تعد موجودة أصلاً. لا يعني ذلك أن اصطفاف قوى الأمن السياسي تبدّل، لكنه أصبح أكثر واقعية، انسجاماً مع تبدل معطيات الفريق الذي يؤيده. إضافة طبعاً الى أن طابع المرحلة تبدّل جذرياً، كما تبدلت طبائع الفريقين الأمني السابق والحالي وأدائهما وطريقة عملهما.
لم يعبر الجيش، حديثاً، عن اصطفاف علني كما كانت عليه حال قوى الأمن، في مرحلة حساسة، لكن الجيش عرف أيضاً محطات أساسية جعلته في صلب المشهد السياسي. تتسم مرحلة العماد ميشال سليمان - العميد جورج خوري بأنها من المحطات السياسية التي شهدت فيها تداخل الأمن بالسياسة. تعيين خوري في مرحلة ما بعد ريمون عازار، حمل الى مديرية المخابرات دوراً سياسياً لأن المديرية في تلك المرحلة كانت شاهداً على أزمات كثيرة، حرب نهر البارد ، و7 أيار، وكثير من الأحداث التي حوّلت المديرية إلى مركز أمني وسياسي على السواء، ولا سيما أن خوري المعروف بعلاقاته الجيدة مع بكركي وقوى 14 آذار، ولم تكن تعارضه قوى 8 آذار، تمكن من إدارة أزمات سياسية وأمنية على السواء. ولا شك أن دور المديرية في تلك المرحلة تقدّم على دور قيادة الجيش.
مع انتقال سليمان الى رئاسة الجمهورية، وحلول العماد جان قهوجي مكانه، شهد الجيش مرحلتين، الأولى خلال عهد سليمان، والثانية خلال الفراغ الرئاسي، إضافة الى الأحداث الأمنية المتعاقبة، وأبرزها عرسال وعبرا. لكن في المرحلتين، تداخل وضع الجيش الأمني مع السياسي، ولا سيما مع طرح اسم قهوجي كمرشح للرئاسة. وضاعفت الأحداث الأمنية التي أرخت بثقلها وخطورتها على الاصطفاف السياسي آنذاك، من حجم دور الجيش السياسي، وتقاطعه مع رئاسة الحكومة في ظل أزمات حادة. فالمعارك الأمنية تحوّلت إلى مادة سياسية في ظل التجاذب السياسي الحاد الذي كان قائماً، وساهم الفراغ الرئاسي في تحول الجيش الى مركز استقطاب سياسي أيضاً، الى حد كبير على قدم المساواة مع القوى السياسية.
مع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وتعيين العماد جوزف عون قائداً للجيش، فرض رئيس الجمهورية إيقاعه على الجيش، فلم يعد في مقدمة الحدث السياسي، وكأن الجيش انسحب الى الثكنات ولملم نفسه داخلها. لولا معركة الجرود التي انحسر الكلام عنها سريعاً، لكان الكلام عن تزاوج الجيش بالسياسة معدوماً. في السياسة، يشكل انكفاء موقع الجيش في المعادلة السياسية معادلة صحيحة ومطلوبة من قوى سياسية، لأنه مع وجود رئيس للجمهورية ومجلس وزراء ومندرجات سياسية طبيعية في السلطة الحالية، لا يمكن أن يكون الجيش متقدماً إلا وفق دوره الأمني فحسب، لأنه يخضع للسلطة السياسية القائمة والمتكاملة بكامل رموزها. فكيف الحال إذا كان المشهد السياسي يقدم أيضاً مرشحين للرئاسة من الآن من داخل التركيبة الحالية، كرئيس التيار الوطني الحر، ما يسحب اسم قائد الجيش من التداول، وتالياً يسحب الجيش من أن يكون في مقدمة المشهد السياسي.

في عهد جان قهوجي ــ جورج خوري، تقدّم دور مديرية المخابرات على دور قيادة الجيش


وبقدر ما يكون طبيعياً انسحاب الجيش من واجهة الحدث، في ظل رئاسة عون، يبدو أمراً لافتاً ألا يكون الجيش ومديرية المخابرات الذراع السياسية لرئيس الجمهورية، رغم العلاقة الجيدة التي تجمع الرئيس بالطرفين، وهو من اختار المسؤولين عنهما. لأن الواضح أن المديرية العامة للأمن العام هي المتقدمة أكثر، بعدما تصاعد دورها وتحولت بعد سنوات الانكفاء الى أن تكون في واجهة المشهد السياسي - الأمني، وهو الكلام الأكثر تداولاً في الوسط السياسي منذ بداية عهد عون.
صحيح أن دور الأمن السياسي من اختصاص الأمن العام، لكن المديرية بعد عهد اللواء جميل السيد والضجة حولها، ومن ثم تعيين اللواء الراحل وفيق جزيني، رغم موقفه السياسي المعروف، شهدت فترة تهدئة وإن شابتها توترات مع وزارة الداخلية. لكن إجمالاً ظلت المديرية على انكفائها. تعيين اللواء عباس إبراهيم أعاد الى المديرية دورها السياسي، بعيداً عن العراضات الأمنية. ولكن مَن المسؤول عن دور المديرية المتقدم: هل هو موقع إبراهيم الآتي من الجيش والمخابرات الى رأس المديرية، أم الرغبة في تعويم الجهاز الأمني، أم أنه تطبيق النص والعمل بما يمليه من أن دور المديرية هو الأمن السياسي كما حصل في كل العهود السابقة أكان على رأس الجهاز أمني أم مدني؟ يبدو دور إبراهيم متعدد الوجوه بعدما تمكن من كسب ثقة رئيس الجمهورية قبل أن يصبح رئيساً، ودخل تدريجاً الى العمل على ملفات «مسيحية الطابع»، ومن ثم ملفات أكثر حساسية وعلى مستوى الوساطات الإقليمية والمحلية. لم يخل هذا المسار من عراقيل وعثرات، لكن بات واضحاً أن عون يقدم الأمن العام الذي تداخل دوره الأمني بالسياسي، في ملفات النازحين ومبادرات حكومية ووساطات داخلية متعددة، على دور الجيش ومخابراته، فيعطي الأول دوراً سياسياً ويعطي الثاني دوراً أمنياً وعسكرياً. صحيح أن لا فصل بين الشخص والموقع، لكن ترجيح كفة الميزان لمصلحة الأمن العام ولا سيما الى جانب رئيس الجمهورية، يجعل انكفاء الأجهزة الأخرى فاقعاً أكثر، وهو مشهد لم نألفه منذ سنوات.