يبكي عبدو كثيراً حين يُسأل عن مسقط رأسه. الشقاوة التي تبرق في عينيه الزيتيتين، تغيب خلف وجعه الكبير. يتوقف ابن الـ 13 سنة عن اللهو مع رفاقه، ليقول: «مبسوط هون، بس مو قدّ الفوعة. انشالله منرجع عا أراضينا». عبدو وأفراد عائلته الستة، يعيشون حالياً مع قرابة الألف شخص غيرهم في مخيم الحرجلة ــــ ريف دمشق الجنوبي. اسمٌ على غير مسمّى. فلا خيم في هذا المكان، بل بيوتٌ اسمنتية، ومدرسة، ودكانة صغيرة، ومطبخ جماعي لتوزيع الطعام يومياً. كلّ شيء هنا كفيلٌ بأن تصل الرسالة إلى العاملين على توطين النازحين السوريين في المجتمعات المضيفة، أو على الأقلّ تأخير عودتهم إلى حين بلورة الحل السياسي. ما أراد القيمون قوله إنّ سوريا آمنة لعودة النازحين من البلدان المضيفة إليها، والإدارات قادرة على توفير الحاجات الرئيسية للمهجرين، وكلّ ما يُحكى عن عرقلة النظام السوري لعودة النازحين وعدم تسهيله الأمور، غير صحيح. لكن «العيّنة» التي اختيرت، لم تتطابق مع أهداف زيارة وفد إعلامي لبناني إلى سوريا. «الحزب اللبناني الواعد» كان قد تواصل مع الجهات الرسمية السورية، من أجل تنظيم «أول زيارة لوفد إعلامي» إلى دمشق، بهدف «إلقاء الضوء على واقع العائدين إلى سوريا، من الذين نزحوا إلى لبنان». فمعاينة أوضاع العائدين إلى بلدهم، تأتي من أجل دحض كلّ الأخبار التي يروجها «المجتمع الدولي»، بمنظماته ودوله، عن أنّ السوريين ممنوعون من العودة بسبب عدم توافر الظروف الآمنة لذلك. خطوة الحزب أتت، بعدما «اشتهر» منذ تشرين الثاني الماضي بإطلاق «المشروع الوطني لعودة النازحين السوريين إلى وطنهم»، الذي نتج منه إعادة قرابة الـ 2000 نازح يعيشون في قضاء كسروان، بالتنسيق مع الأمن العام اللبناني. لكن المُخيّم الذي اختارته الإدارة السورية لم يحقّق الهدف الرئيسي للزيارة التي تمت يوم 10 نيسان الجاري.في مخيم الحرجلة، الذي يُعرّف عنه بأنّه أكبر المخيمات السورية، لا يعيش فيه سوى مهجرين من بلدتَي كفريا والفوعة (ريف إدلب). أين هم النازحون العائدون من لبنان؟ في وقت أصرّ فيه رئيس «اللبناني الواعد» فارس فتوحي ووفد وزارة الإعلام السورية على أنّ المُخيم فيه نازحون من الداخل السوري ولبنان والأردن، كان معاون وزير الإدارة المحلية والبيئة معتز القطان واضحاً حين قال إنّه «لم نضطر إلى البحث عن مركز إيواء للعائدين من لبنان، لأنّهم جميعاً عادوا إلى منازلهم أو حلّوا ضيوفاً لدى أقاربهم. لغاية تاريخه، لم يعد أحد لا يملك مسكناً». وأوضح أنّ الإدارة وافقت على الزيارة، «لتشجيع المُهجرين على العودة، والتأكيد أنّ سوريا مستعدة وجاهزة لاستقبال كلّ لاجئ».
الزيارة تحوّلت إذاً من زيارة نازحين عائدين من لبنان إلى معاينة أوضاع سكان المخيّم من المهجرين في الداخل. وفضلاً عن غياب نازحين عائدين من لبنان، بدا المسؤولون عن المخيم شديدي التكلّف للتأكيد على أنّ المهجرين في «أفضل حال». مثلاً، «صودف» البدء بتوزيع الطعام على سكان المخيم لدى وصول الوفد الإعلامي إلى الحرجلة. كانت الساعة الثالثة و18 دقيقة من بعد ظهر الأربعاء. «اليوم تأخّر الأكل»، يقول أحد الفتيان الواقف في الطابور، حاملاً قدراً من الألومينيوم للحصول على حصّته. حتى نوعية الطعام، تبدّلت في ذاك النهار. يُخبر أبو عمّار، السبعيني، أنّها «أول مرة مناكل فيها فرّوج». فعلى ذمّة المُهجرين، طعامهم اليومي هو عبارة عن «كلّ شيء إلا اللحمة والدجاج». يُضيف علي: «ما يغرّك هالنهار. مش كلّ يوم هيك».
اللافت في الجولة بين المُهجرين، أنّهم يتحدثون براحة، فيكيلون الانتقادات حيث يشعرون بوجود تقصير. «نحنا كنّا محاصرين. كنا ميتين، وكنّا نحكي يللي براسنا. بدنا نخاف هلق؟»، يقول أحد سكان المخيم، مُضيفاً إنّه «كان هناك تقصير حين رُفض استقبالنا في حلب في اليوم الذي تهجرنا فيه». أما في دكانة المخيم، فالشكوى من «التأخر في الاستحصال على الهويات ودفاتر العائلة». ويُخبر مُساعد أول متقاعد عن «معاناة أسر الشهداء، المتوقفة معاملاتهم ولا يتمكنون من قبض الرواتب». في حين أنّ أبو عمار مشكلته مع الخدمات «الضعيفة والمش زيادة». هو ضحية «كتبة التقارير» من أبناء بلده. «ما فينا غير كراهية لبعضنا البعض. كانوا يعطوني 15 ألف ليرة سوري، قطعوهم عنّي لأن في حدا كاتب بحقي تقرير إنو معي مصاري».
هل تعتقد أنّ الظروف مؤمنة ليعود النازحون من لبنان؟ «إذا في مجال ليش ما يرجعوا؟»، يسأل أبو عمار. ويضيف أحد المهجرين الذي كان يستضيف شقيقاً له أتى من حمص ليزوره، «صحيحٌ يوجد نقص في المسكن والخدمات، ولكن أكيد الوضع هنا أحسن من لبنان. هذا بلدنا ويجب أن نعود لندافع عنه ونبنيه من جديد».
معتز القطان: لغاية تاريخه لم يعد أحد من لبنان لا يملك مسكناً


لا يعني ذلك غياب الرأي الآخر، الخائف من عودة النازحين من لبنان، والذي ينقل صورة سلبية عن طريقة تعامل الإدارة معهم. علي ربّ أسرة مؤلفة من زوجة وطفلين، يقول إنّه «بخاف إذا جابوهم يطلعونا من هون وما يعود إلنا محلّ». فهو عانى كثيراً حتى وجد مسكناً، «وصلت لهون، خلعت الباب وفتت. ما كان بدن يخلوني اسكن، قال نحنا ما إلنا اسم. قلتلهم هودي بشار الأسد عاطينا ياهم وهوي صاحب الملك وهوي بقلنا نطلع إذا بدو. لما طلعت عليهم بالعالي تركوني وراحوا».
الطريق التي سلكتها حافلة الصحافيين لا توحي بأنّ البلد يعيش حالة حرب منذ ثماني سنوات. صورٌ بسيطة تعكس تفاصيل عن حياةٍ شبه عادية. لا يقتصر ذلك على أكشاك بيع العسل البلدي على طول الطريق أو بسطات الخضر، والزحمة في مدينة حوش بلاس الصناعية، وعلى طريق المزة. ربما تعمّد المنظمون ألّا تمر الحافلة في مناطق شهدت دماراً. ظل المشهد «طبيعياً» إلى حين الاقتراب من محطات الوقود، حيث تكاد طوابير السيارات المنتظرة لا تنتهي.
بمقابلة المهجرين في الحرجلة، والمؤتمر الصحافي لفتوحي، انتهت زيارة الساعات القليلة لسوريا... من دون أن تُحقّق هدفها. خلال كلمته، قال فتوحي إنّه «كان لا بدّ لنا من أن نأتي لزيارة العائدين، من أجل أن نلمس لمس اليد بأنّهم بألف خير»، الأمر الذي لم يحصل. ربما يكون صحيحاً أن وضعهم في سوريا أفضل مما كان عليه في لبنان، فيتشجع غيرهم للعودة، ولكن كيف نتأكد من ذلك، والزيارة مُنظمة إلى المخيم المختار من قبل الإدارة السورية؟ يردّ قطّان بأنّ التنسيق الرئيسي يتم مع الوزير صالح الغريب، «وأبلغناه أنّ أرقام جميع العائدين لديه، بإمكانه الاتصال بمن يريد، وزيارته ليتأكد بنفسه».
ليس مُستغرباً في بلدٍ يُعاني من حرب مُستمرة منذ ثماني سنوات، أن لا تكون ظروف الحياة فيه «مثالية» لأحدٍ من مواطنيه. التقنين الكهربائي، انقطاع البنزين والمازوت، طوابير السيارات أمام محطات الوقود، عدم توفر جميع السلع الغذائية، تهدّم البيوت والعيش في منازلٍ في المخيمات، ارتفاع نسبة الفقر والفئات المعدومة اجتماعياً... أمورٌ يعانيها المواطنون السوريون، بسبب العقوبات والحصار، والدمار الذي سببته الحرب، وسوء الإدارة، وعدم انطلاق قطار إعادة الإعمار. لكن ما تقدّم لا يعني أن بقاء النازحين خارج بلادهم، وخاصة في مخيمات لبنان، يجعلهم يعيشون في ظروف أفضل من تلك التي يعانيها مواطنوهم في سوريا.



خدمة العلم
خدمة العلم واحد من الهواجس التي تؤرق النازحين السوريين في لبنان. يقول معاون وزير إدارة شؤون الإدارة المحلية معتز قطّان إنّ الحكومة السورية «منحت مهلة ستة أشهر لجميع العائدين من أجل تسوية أوضاعهم»، وأضاف لـ«الأخبار» إنّ الشعب في سوريا «ناقمٌ علينا، ويسأل لماذا النازح في الخارج لديه فرصة لتسوية أوضاعه، على العكس ممّن بقي؟». اتُخذ القرار للتشجيع على العودة. الحوافز الأخرى تشمل، بحسب قطان، «إمكانية تجديد جوازات السفر في أقرب بعثة دبلوماسية سورية، أو يتولى أحد أقاربهم في سوريا ذلك». وبالنسبة إلى تسجيل الولادات الحديثة، «يكفي تقديم بيان ولادة من المستشفى إلى دوائر السجل المدني». أما الحديث عن معوقات للعودة، فيُعيده قطان إلى «وجود جهات مستفيدة مادياً من وجود السوريين في الخارج، أو بهدف استخدامهم للضغط السياسي». وفي هذا الإطار، اعتبر فارس فتوحي أنّ «أداء المفوضية العليا للنازحين خير دليل على هذا الواقع، بحيث إنّ دورها يقتصر على تعداد النازحين وتخويفهم من تجنيد إجباري ينتظرهم وأعمال عنف قد تطاولهم»، مُعتبراً أنّ العودة ممكنة، «وندعو الجهات المانحة إلى مساعدة العائدين، فالمبالغ الصغيرة التي تقدم لهم في لبنان، قد تساهم في إعادة بناء المنزل أو ترميمه إذا كان قد لحق به ضرر».