يتركز اهتمام مراكز الدراسات الغربية على استطلاع مرحلة ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية، ومستقبله ومصير عناصره، وعلى درس التطورات الإسرائيلية بعد حدث الجولان، ومصير الضغوط الأميركية على إيران ومدى تأثر حزب الله بارتفاع حدة الضغوط الأميركية عليه. ثمة حساسية عالية هذه الأيام في رصد الوضع الإقليمي، ودور العراق في ظل التجاذب الأميركي والإيراني حوله، واحتمالات تسرب عناصر التنظيم إليه مجدداً، وحركة غربية لافتة في ظل كثافة الجولات والزيارات الأوروبية والأميركية إلى المنطقة. تناقش فرنسا اليوم حركة السترات الصفر والاحتجاجات المتنامية وتناقش بريطانيا البريكست، وتناقش أوروبا استمرار تدفق النازحين والدخول الصيني الاقتصادي الى عواصم فيها. كل الدول تطرح اليوم همومها للنقاش الداخلي، في المقابل يبدو المشهد اللبناني منفصلاً تماماً عما يدور حوله وفي داخله.فالكلام السياسي حول مستقبل المنطقة يكاد يكون معدوماً، في موازاة تراجع البحث المعمق في الملفات الداخلية، حالياً لمصلحة قضايا اقتصادية وحياتية وهي كثيرة ومتنوعة، لكن أيضاً بسبب الفراغ الذي بات يتحكم بالطبقة السياسية والفكرية التي كانت تقليداً تخلق هذا النقاش الحيوي. ففي خلال أسابيع قليلة، توافد الى بيروت عدد من وزراء النخبة الإقليمية والدولية، وأبرزهم: الايراني محمد جواد ظريف والأميركي مارك بومبيو، لكن كل هذا الحشد لم يساهم في إعلاء النقاش المحلي وديمومته الى أكثر من 24 ساعة. حتى الكلام الذي أطلقه بومبيو من بيروت تجاه إيران وحزب الله، والتصعيد الأميركي، سحب فوراً من التداول ما إن ردّ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عليه وتعامل معه بهدوء مقصود.
الواقع أن لا أحد من القوى السياسية يرغب في الوقت الراهن بالدخول في أي نقاش، ليس من باب التهدئة المطلوبة لحفظ الاستقرار فحسب، بل لأن هذه القوى باتت تدور حول نفسها ولا تتقدم خطوة الى الأمام في إحداث حوار فعلي حول الواقع السياسي، ومستقبل البلد ونظامه، والتطورات السورية، ومرحلة ما بعد داعش. تختار هذه القوى التغاضي عن حوار حقيقي حول ما يرسم للبنان أميركيا وإيرانياً، واحتمالات إسرائيل تجاه لبنان ومزارع شبعا وقضايا المنطقة والموقف العربي من إسرائيل ومبادرة السلام، وما سيطرح في القمة العربية المقبلة في تونس. قد تكون إحدى حسنات طاولات الحوار، خلال العهود الرئاسية والفراغ الرئاسي على حد سواء، أنها وضعت على الطاولة ملفات سياسية تتعلق بتركيبة لبنان وبهموم القوى السياسية وملفات المعارضة والموالاة. في حين أنه في ظل سلطة سياسية مكتملة النصاب، تختزل القوى السياسية نقاشها حالياً على اعتمادات الفيول وأعطال الكهرباء والبواخر والتعيينات والمحاصصة.
لو كان ثمة حيوية سياسية حقيقية، لكان لزيارة بومبيو وقع آخر، ولكان دار حوار في خلفيات كلامه والتهديد المالي والاقتصادي والسياسي، ولجرى البحث في مستقبل الموقف الأميركي من الجولان وارتداداته المفتوحة على لبنان. ولو أن ثمة حياة سياسية بالمعنى الفعلي وليس بمعنى تحصين مواقع القوى والأحزاب في السلطة، وليس هناك اصطفاف سياسي بات طاغياً، وتسويات سياسية تحت سقف الحكومة الواحدة، لما مر كلام رئيس الجمهورية ميشال عون بلا ردة فعل، عن حماية روسيا للأقليات المسيحية، مع التلميح الدائم لحلف الأقليات. ولولا اندثار الأصوات السياسية الحقيقية، لما كانت أصوات قليلة سألت عن معنى المقاومة الاقتصادية التي أطلقها عون، بعد كلام سابق له علناً، وفي لقاءاته البعيدة عن الإعلام، عن مقاربة اقتصادية جديدة تقوم على الدفع في اتجاه لبننة كاملة للاستهلاك وتقليص الاستيراد ورفع التكلفة على كثير من المنتجات المستوردة، بعد دعوته السابقة اللبنانيين الى الامتناع عن السفر والسياحة خارج لبنان. لو كان هناك نقاش سياسي، لجرى درس معمق لتأجيل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت، وخلفيات الأسباب التي أرجأتها أكثر من مرة، بين مقررات سيدر وتنفيذها والإشكالات حول مصالح عسكرية واقتصادية. لأن كل هذه المواضيع لا تخص فئة ولا تستهدف فئة معينة، ولا تصب في إطار أي اصطفاف سياسي.
كان يفترض بعد انتخاب مجلس نواب جديد وتأليف حكومة أن توضع كل الملفات الداخلية على مشرحة الحوار. لم يعد أحد على ذكر اللامركزية الإدارية أو الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وقانون الانتخاب، وما طبق من الطائف وما لم يطبق، وإعادة تحديد الحدود مع سوريا، مع التسليم جدلاً بأن موضوع الاستراتيجية الدفاعية أصبح في خبر كان. ولم تعد القوى أو الأحزاب تفتح باب الحوار وحلقات البحث حول عناوين وأدبيات خطبها، حتى تلك التي كانت ترفعها في المجلس النيابي والحكومات المتعاقبة. حتى النقاشات في مجلس النواب والحركة التي كان مسرحها عين التينة أو المختارة أو أي من المراكز السياسية الأخرى الحزبية أو الرسمية أو الدينية، باتت لا تقدم إضافة جديدة تعيد الحيوية الى المسرح السياسي. ثمة حاجة الى استعادة وهج الحياة السياسية، لأن الاضمحلال الحالي بات أخطر من أي نقاش مهما اشتدت حدته.