بيار أبي صعباليوم في لبنان، كل أهل السياسة باتوا من دعاة الاصلاح، ومن مكافحي الفساد. بل إن هناك تيارات وشخصيات سياسيّة لم تنل حصّة كافية في «طورطة» المحاصصات، أو خافت على مصالحها الاقتصاديّة في المعادلات الجديدة، فغافلتنا جميعاً وقفزت من ضفّة «الزعماء» إلى ضفّة «الشعب»، ومشت كلّها في جنازة جورج زريق الذي دفناه ونسيناه في أقل من 48 ساعة. الطبقة السياسية باتت ناطقة باسم «الشعب المسكين». هذا الشعب التي يعتاش «ثوار» آخر زمن من دمه، منذ أجيال، وقبلهم آباؤهم وأجدادهم، أقطاب جمهوريّة المزارع، كل ذلك للأسف في حماية المؤسسة الدينيّة. أما الوزيرة ريّا الحسن، فليست من سلالة اقطاعيّة، بل هي هنا تلعب دور المرأة، الشابة، العصريّة، الليبرالية، التي وصلت الى السلطة بنضالها وعلمها… ما يخوّلها أن تكون من «دعاة الاصلاح»، أكثر من فلول الاقطاع السياسي. «إصلاحية» إذاً الوزيرة الحسن، بمعزل عن جذورها النيو - سنيوريّة.
المهم أن الوزيرة الشابة بوسعها أن تغري الرأي العام الجديد الذي تعجز الاحزاب الوطنية والتقدميّة المستقلّة، حتّى الآن، عن استقطابه. تلك الكتلة الشابة والأقل شباباً، التي زجّ بها في خانة غامضة، ملتبسة، هي «المجتمع المدني»، تتنازع عليها كل القوى التقليديّة اليوم، ويعمل أخطبوط المنظمات غير الحكوميّة على تدجينها واستغلال غضبها واحتواء اندفاعتها الصحيّة. هذه القوّة المشتتة التي يوحّدها العداء للنظام اللبناني الفاسد والطائفي، ليس لديها من يخاطبها اليوم في دائرة السلطة سوى نائبة واحدة تأتي إلى «عملها» على متن الـ vespa الزرقاء. ماذا لو جرّبت وزيرة الداخليّة حظّها، في غواية «المجتمع المدني»، ماذا لو «رمت حجراً في المياه الراكدة»؟
بعد أن رفعت السواتر من أمام وزارتها، معلنة ولادة «دولة المواطن»، كما تعلن سنونوة ولادة الربيع، انتقلت من دون مقدّمات إلى… معركة «الزواج المدني». يا لها من امرأة شجاعة! يا معاليك عدّي للعشرة… هل أنت قدّها؟ رولا طبش واحدة تكفي، مصيرك سيكون «الاستتابة»! لا بد من أن ريا الحسن صادقة في ما أعلنته على «يورونيوز» في لحظة تجلّ: «أحبّذ، شخصياً، أن يكون هناك إطار للزواج المدني». وأضافت، كأنّها أدركت هول هذا التصريح: «سأسعى لفتح الباب لحوار جدي وعميق حول هذه المسألة مع كل المرجعيات الدينية وغيرها، وبدعم من رئيس الحكومة سعد الحريري، حتى يصبح هناك اعتراف بالزواج المدني».
إن معركة الزواج المدني في لبنان، صارت مثل «حكاية ابريق الزيت». والكل يعرف منذ أيام الرئيس إلياس الهراوي على الأقل، أن انتظار رضى المؤسسة الدينية في هذا السياق لا يجدي، علماً أنّه غير دستوري. فمشروع القانون الذي تقدّم به الرئيس الراحل في أواخر أيام عهده، ووافق عليه مجلس الوزراء بالأكثريّة الساحقة (18 آذار 1998)، دفنه الرئيس الراحل رفيق الحريري، ولم يحقق سوى انجاز واحد: توحيد كل الطوائف، المتناحرة آنذاك، ضد المشروع. هذه المؤسسات لا تدافع عن الدين، بل عن امتيازاتها ووجودها. وأي تغيير في المعادلة يتطلّب بروز قوى سياسية جديدة، وازنة، يمكنها أن تزعزع ثوابت النظام القديم. والقوى البديلة التي ستحمل التغيير لن تأتي غداً صباحاً، ولن نجدها في أي من المجموعات السياسية الحالية، خصوصاً في التيار السياسي الذي تنتمي إليه الحسن، وفي الجهات والايديولوجيات التي ترعاه.
في العام 2013 هدّد المفتي الأسبق محمد قبّاني «كلّ المسؤولين المسلمين في السلطة التشريعية والتنفيذية»، بأن من يوافق بينهم «على تشريع الزواج المدني وتقنينه، ولو اختيارياً، مرتد وخارج عن دين الإسلام، ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين». هذه المرّة لم يتأخّر رد فعل «دار الفتوى» أصلاً: «الرفض المطلق لمشروع الزواج المدني في لبنان، لأنه يخالف أحكام الشريعة الإسلامية السمحاء جملةً وتفصيلاً، ويخالف أيضاً أحكام الدستور اللبناني». لندع جانباً وجهة النظر القانونية لـ «دار الفتوى» بالدستور، إذ يضيق المجال بمناقشتها هنا. ولنتفاد النقاش الديني فهو ليس من اختصاصنا، ولو إننا نتمسّك باجتهادات العلامة الراحل الشيخ عبد الله العلايلي الذي رأى أن على «الشريعة أن تجيب عن حاجات الناس في زمنهم»، وقال بامكان الزواج بين كتابيّ ومسلمة مستنداً إلى الآية الكريمة «اليوم أحلّ لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم، وطعامكم حلّ لهم، والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم» (المائدة:5).
إن الزواج المدني لا يشكّل خطراً على الدين ولا الإيمان، ولا يهدد بـ «تفكيك المجتمعات الاسلاميّة»، بل يخوّلنا أن نبني أخيراً دولة تقوم على أساس القوانين الوضعيّة، وتحترم حريّة المعتقد، ووطناً جديراً بهذا الاسم، يتألف من شعب واحد بغض النظر عن انتماءات ابنائه الدينية وعقائدهم السياسيّة. وطناً محصناً ضد كل الانقسامات والحروب الأهليّة. هذا الزواج المدني «الاختياري» الذي يتعايش مع الزواج الديني، ينهي حالة الفصام التي يعيشها لبنان، إذ يعترف بالزواج المدني، إذا أقيم في دول أخرى. أما الفقراء، فممنوعون من التزاوج في ما بينهم خارج غيتوهاتهم الطائفيّة…
هذا الزواج يخولنا بناء دولة تحترم حرية المعتقد


نعرف تماماً أن توقيت هذا النقاش، ليس مفيداً الآن، بل إنه لا يحمل، كما رأينا، إلا التشنّج، ويفتح أبواب الخوف من جهة والأصوليات من الجهة الأخرى. ويعيدنا إلى الوراء في معركة الزواج المدني، بترسيخ الخطاب المحافظ الرافض لها، من كل الجهات، ويزكي النزعات الانعزاليّة ومواويل الفدرالية والكونفدرالية على قاعدة «الجماعة ما بينعاش معهم»! الغريب أن الوزيرة الشابة، العصريّة، الليبرالية، في حكومة «إلى العمل»، بدأت العمل من المكان الخاطئ، ولم تنتبه إلى كل ذلك! في السياسة، الواقعيّة هي فضيلة الفضائل. في انتظار أن يلتحق لبنان بركب الحضارة، يمكن أن نكتفي بأقلّ من الزواج المدني بكثير. هناك منذ خمس سنوات، وتحديداً منذ سابقة خلود سكريّة ونضال درويش، واجتهادات محاميهما طلال الحسيني، ما يسمّى العقود المدنيّة، بين مواطنين من الجنسين شطبوا مذهبهم عن الهويّة. لا نعرف إذا كان الوزير نهاد المشنوق هو من أزال الحواجز من أمام وزارة الداخليّة، لكنّه ترك لخلفه في أدراج الوزارة عشرات العقود المدنيّة، الشرعيّة، التي عرقل تسليمها لأصحابها لسبب غامض. بما أن الرئيس الحريري يؤيّد وزيرته في منحاها التقدمي التنويري، وبما أن القانون يجيز لها ذلك، لتبدأ وزيرة الداخلية رحلة الألف الميل نحو الزواج المدني الذي «تحبّذه»، بخطوة صغيرة، متواضعة، هي اطلاق سراح العقود المدنيّة المحتجزة، ضد منطق القانون، في الأدراج التي باتت الآن أدراجها…