حكاية المختبر المركزي للدواء ترافق، دائماً، الفترة الأخيرة من ولاية الوزراء الذين تعاقبوا على «الخدمة» في وزارة الصحة العامة. غالباً ما يسعى هؤلاء لتسجيلها من بين «الإنجازات» التي ستترك بصمة لهم في الوزارة. هذه الحكاية، تعاقب على سردها كل الوزراء، وآخرهم الوزير غسان حاصباني، الذي أنهى ولايته بـ«الخطوات الكبيرة التي تقدمنا بها في النقاش لإنشاء هذا المختبر». لكن، رغم هذه النقاشات، لم «يٌنشأ» شيء، وبقي المختبر متوقّفاً عند «الخطوات الكبيرة في النقاش»، ولم يجرؤ أحد إلى اليوم على تخطي تلك العتبة.اليوم، هناك من يعيد الحديث عن المختبر المركزي، في معرض الحديث عن الطفرة في سوق الدواء «والتواطؤ المزمن للجنة تسعير الأدوية في وزارة الصحة مع الجهات المستفيدة». في آخر التصريحات لرئيس هيئة «الصحة حق وكرامة»، النائب السابق اسماعيل سكرية، والتي لا يملّ من تكرارها، فإن «أكثر من نصف الأدوية الموجودة في السوق اليوم لا حاجة علاجية لها». أكثر من 50% بين «مزوّر ومجتزأ الفاعلية ومقلّد». كان يمكن تفادي كل هذا لو أن هناك مختبراً مركزياً وطنياً، أو بالأحرى لو أن المختبر المركزي لم يعطّل، إذ يقوم المختبر بمهام أساسية، ومجانية، منها فحوص الجراثيم في المواد الغذائية والمياه والفحوص الكيميائية التي تجرى على الأدوية.
51 عاماً بقي المختبر المركزي للدواء يزاول عمله، قبل أن يعطّل في عام 2007. الذريعة يومها كانت قرب المبنى من مقر الرئاسة الثانية في عين التينة، ما استدعى إقفاله «لدواعٍ أمنية». يوضح وزير الصحة السابق محمد جواد خليفة أن «الإجراءات الأمنية أغلقت مداخل المختبر، وصارت المواد الكيماوية والبيولوجية التي تدخله تتعرّض لتفتيش دائم، فبتنا أمام خيارين: إما أن يُنقل مقر الرئاسة الثانية أو يُغلق المختبر». وهكذا أقفل، وهدم المبنى الذي كان يشغله وضمّ إلى المقر الرئاسي. ومنذ ذلك الوقت، لا يزال مصير المختبر معلّقاً، فيما «تستعين» الدولة بمختبرات خاصة وجامعية لإجراء الفحوص. طُرح يومها نقله إلى «أرض تملكها وزارة الصحة في الكرنتينا، ولكن ظهرت عوائق، منها أن قطعة الأرض تقع ضمن مخطط لإنشاء حوض لمرفأ بيروت وأوتوستراد الشمال»، يقول خليفة.
مع ذلك، هذه «أمور ثانوية»، بحسب وزير الصحة السابق. أما الأساس، فيكمن في النية بإعادة المختبر المركزي من عدمها، خصوصاً أن وجوده ضروري «لناحية أنه الهيئة الناظمة لمراقبة الدواء وصناعته وتنظيمه بطريقة علمية، إضافة إلى الغذاء والهواء والماء». وخصوصيته أن «دوره مركزي وقانوني، أكثر منه تقنياً، أي إنه بمثابة مرجع». ففي ما يتعلق بالدواء، «المختبر بيقول هيدا الدوا منيح أو لا ومدى فاعليته». والأمر ينسحب على «القطاعات» الأخرى من ماء وغذاء، مذكّراً بحادثة «القمح المسرطن»، وتضارب الفحوص المخبرية للعينات بين وزارتي الصحة والاقتصاد. «كانت هذه الخلافات ستنتفي بوجود المختبر المركزي».
الضالعون في غياب المختبر مستوردون وشركات وسياسيون والإدارة الفاسدة للوزارة


بسبب هذا الدور المحوري، يمكن فهم أسباب «الغياب» التي يذكر خليفة الجزء اليسير منها، والمتعلّق بـ«الكباش على الصلاحيات بين الوزارات». ويجزم بأن «عدم تقوية المختبر سببه أن كل الوزارات تمتلك مختبراتها، وعودة المختبر المركزي يفقدها نفوذها». لكن، ثمة ما هو أكثر، يرويه وزير الصحة الأسبق كرم كرم عن «الضالعين» في غياب المختبر المركزي «من مستوردين وشركات وسياسيين والإدارة الفاسدة لوزارة الصحة». هذا الأمر يحيل إلى خلاصة واحدة: الفوضى في سوق الدواء «وهو السوق الذي تتخطى إيراداته مليار دولار. فكلما كانت تلك الفوضى عارمة كان الفساد أسهل وكذلك السرقة». يؤكّد كرم أنه يمكن على الأقل «حذف أكثر من 100 مليون دولار تذهب بدل سرقات وهدر»، يسهّلها غياب المختبر المركزي الذي من شأنه أولاً «العمل على ضبط السوق من خلال إجراء الفحوص الذي تثبت فعالية الأدوية من عدمها ومدى حاجتنا إليها، وبذلك يصبح هناك تشديد أكثر»، بدل سياسة السوق المفتوح على مصراعيه «واللي فيه مال كتير».
في نيسان 2016، تقدم سكرية بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة، فحواها إلزام «الدولة بتطبيق قانون إنشاء مختبر مركزي للصحة العامة»، لا تزال حتى هذه اللحظات بلا قرار. أهمية الدعوى، برأي مقدمها، أنها تسأل عن «المرجع الأساسي المسؤول عن نوعية الدواء الذي نتناوله ومدى نقاوته، سواء كان مستورداً أم محلياً وسواء كان الدواء الأصلي أم الجينيريك». هذه نقطة أولى، أما الثانية، فتحيل إلى السؤال عن «الضمانات» التي يمكن أن تقدمها المختبرات الخاصة، في ظل «عدم وجود معايير واضحة وغياب الرقابة على عملها». يضاف إلى ذلك أيضاً تكاليف تحاليل الأدوية التي كانت صفراً مع المختبر المركزي، والتي تتخطى «مئات الدولارات في المختبرات الخاصة، وتصل إلى 5 آلاف دولار على كل صنف خارج لبنان، يتحمّلها المستورد والشركة المصنّعة مبدئياً»، وتُدفع في النهاية من جيوب المستهلكين.