من شأن مقابلة الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، على قناة الميادين السبت الماضي، وما ورد فيها من محدَّدات ترتبط بمجمل المواجهة القائمة مع العدو، أن تترسخ طويلاً على طاولة القرار في تل أبيب. محددات تؤكد قواعد الاشتباك وتعزِّزها، في سياق تأكيد الجاهزية للأسوأ (أو الأحسن ربما)، إن قرر الإسرائيلي الذهاب بعيداً في الرهان على إمكان اللجوء إلى الخيارات العسكرية في الساحة اللبنانية.بالطبع، يسجَّل للمقابلة انتصارٌ في هذه الجولة من الحرب على الوعي، أحد أبرز أهداف إسرائيل في حراكها الأخير ضد حزب الله والساحة اللبنانية عموماً، ومن بينها «الكشف» عن أنفاق (من دون «أل» التعريف) منسوبة إلى حزب الله، على الحدود مع فلسطين المحتلة، إلا أن ما ورد في المقابلة يتجاوز في دلالاته وتأثيره الحرب على الوعي إلى المواجهة نفسها وإمكاناتها وترجيحها من عدمه.
نعم، في جانب أساسي ورئيسي من المقابلة، أعيد رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، إلى المربع الأول ما قبل «الأنفاق»، وربما أسوأ من ذلك، بعد رهان على فائدة مبالغ فيها ــــ إلى حد التطرف ــــ لهذا الموضوع. فالمقابلة أرجعت الأنفاق إلى مستوى تأثيرها الفعلي، بوصفها كما هي، جزء من أجزاء الاستعداد العسكري للآتي.
نتنياهو من جهته، ورداً على المقابلة، وفي محاولة منه للحد من تأثيراتها السلبية عليه بعدما كشف نصر الله «شخصنة» حراكه ومواقفه وقراراته، عمد (نتنياهو) إلى حرف الانتباه باتجاه سجال من نوع آخر، وهو التلويح بورقة مأزومية موهومة لحزب الله، تُباع للجمهور الإسرائيلي في الأزمات الإسرائيلية. ولم يردّ رئيس وزراء العدو مباشرة على ما ورد في كلام الأمين العام لحزب الله الذي شدد على وقائع الإخفاق والفشل في مجمل مواضيع صراع المقاومة مع العدو في لبنان، إن لجهة السلاح وتطويره وتعظيمه، وكذلك دقته، أو لجهة التأكيد على الردع ومعادلته والرد على الاعتداءات إن حصلت.
في مستهل جلسة الحكومة الإسرائيلية، وفي إجراء لافت في دلالاته وكاشف لمستوى تأثير المقابلة وسلبيتها في تل أبيب، قال نتنياهو لوزرائه وللرأي العام الإسرائيلي:
«نصر الله كسر الصمت أمس. إنه في حرج كبير لثلاثة أسباب، منها نجاحنا الكبير في عملية درع شمالي... العقوبات على إيران مسّت بشدة بمصادر التمويل. نصر الله لديه أسباب جيدة لعدم الرغبة في الشعور بقوة ذراعنا».
في دلالة المقابلة ومحدداتها، يشار إلى الآتي:
جدد نصر الله في المقابلة التأكيد على قواعد الاشتباك كما هي، وأظهر تصميماً حاسماً على منع إسرائيل من استهداف الساحة اللبنانية، وبما يصل إلى تعزيز المعادلة إن تطلب الأمر ذلك. هذا يعني قراراً بمواجهة اعتداءات إسرائيل إن قررت المجازفة والرد بمستوى يؤدي أولاً إلى منع تحقيق هدف أو أهداف الاعتداء إن حصل، وكذلك منع العدو من البناء عليه باتجاه الإقدام على اعتداءات أخرى في أعقابه. قرار يعني مستوى رد قد يكون غير تناسبيّ، وهو ما يؤكد خطأ تقدير إسرائيل في تلقي رد شكليّ، أو تناسبيّ.
وضع نصر الله مسألة الأنفاق في سياق موضوعي. فهو لم ينف ولم يؤكد علاقته بها، لأسباب مفهومة، وحدد مستوى تأثيرها على مجمل خطة حزب الله الدفاعية والردعية في مواجهة أي حرب إسرائيلية على لبنان، والتي يحتل اقتحام الجليل أحد عناصرها المستجدة التي حفرت عميقاً في وعي قادة إسرائيل وجنرالاتها. والأهم أن هذا العنصر الهجومي الطابع، هو دفاعي وردعي في خلفياته وأهدافه. وليس من عادة حزب الله والسيد نصر الله أن لا يلوّح بأوراق لا يستطيع تنفيذها، لأنه يدرك مفاعيلها السلبية على مجمل منظومة الردع القائمة. بل إن شرط تحقيق مفاعيلها أن يدرك صانع القرار في الجهة المقابلة أن حزب الله يملك القدرة والإرادة على ذلك. وهو أمر بات مسلّماً به، وخاصة بعدما لمست تل أبيب جدية حزب الله، من خلال الأنفاق، على هذا الخيار. ومع إعادة تأكيد السيد نصر الله عليه مرة أخرى في المقابلة، سيعود ليحضر بقوة على طاولة البحث والتقدير في المؤسسات السياسية والأمنية.
بشكل عام، ينبغي فهم ما يرِد من تل أبيب، من خلال استحضار عاملين اثنين باتا سمة حراك العدو اللفظي والعملي في السنوات الأخيرة: شخصنة المواقف وتطرفها لمواكبة مزاج يميني سائد في إسرائيل، مع حراك ميداني عملي مواكب أو من دونه، وفي الوقت نفسه التغطية على الفشل والإخفاق بتحويل الخطط والأهداف الموضوعة لساحات المواجهة وتقليصها، ومنها لبنان، مع تكثيف الصراخ والمواقف حولها، لتعويض الإخفاق والتراجع إلى أهداف باتت مقلصة.
هذا ما يفسر التراجع الإسرائيلي مع الكثير من الصراخ في الساحة السورية، من مطلب إسقاط النظام واستبداله بنظام حليف إلى إخراج إيران من سوريا، ومن ثم في النسخة الأخيرة في منع «التمركز» العسكري الإيراني والحد منه، من دون الإخراج نفسه.
هذا تحديداً ما ينسحب على لبنان والمقاومة وسلاحها، الذي يتنقل من اقتدار نوعي إلى آخر، مع مواكبة للخطوط الحمر الإسرائيلية لهذا الانتقال، وصولاً إلى دقة الصواريخ ونوعيتها، التي تسمح لحزب الله ــــ بحسب ما ورد في مقابلة أمينه العام ــــ بالاستهداف النقطوي في أي مكان قيادي، عسكري أو مدني، في فلسطين المحتلة.
القدر المتيقن أن المقابلة تحولت الى محطة مفصلية في وعي صناع القرار في تل أبيب، وستبقى الى فترة ممتدة مرجعية يستندون إليها في أي دراسة لخيارات حزب الله المضادة. فهي بددت، لجهة موضوع الأنفاق، المنسوب الوهمي في مفاعيل عملية «درع شمالي»، وأربكت تقديرات تل أبيب وحساباتها، في مخططاتها المتصلة بالساحة اللبنانية، والأهم أنها توعدت صاحب القرار الأمني والسياسي، في حال أخطأ التقدير إزاء ساحات المواجهة، وبشكل أكثر تأكيداً الساحة اللبنانية.