إذا صحّ أن إبصار حكومة الرئيس سعد الحريري النور اليوم، يكون انقضى 212 يوماً على تكليفه. ما حصل، مذذاك، ليس قليلاً بانقضاء أكثر من نصف السنة الثانية من ولاية الرئيس ميشال عون في ظل تصريف اعمال، وهي بالكاد اجتازت ثلثها الأول. مع ذلك، من غير المؤكد أنها الحكومة الأولى للعهد كما رغب فيها الرئيس مراراً، وهي ليست كذلك. بل قد تصبح آخر حكوماته نظراً إلى وطأة ما رافقها من تناحر على المشاركة فيها، والتسابق على حقائبها، والطموحات الجامحة المستعجلة التي تركب رؤوس بعض صانعيها. أضف أنها صورة مطابقة لحكومة 2016 في مرحلة استحقاقات مختلفة تماماً، وأكثر إحراجاً. بعيداً من ذلك كله، ثمة قواعد جديدة أضافها تكليف الأشهر السبعة المنصرمة إلى الأعراف المنبثقة من اتفاق الدوحة (2008)، كي تمسي بدورها جزءاً لا يتجزأ من آلية تأليف الحكومات اللبنانية مستقبلاً. لم تعد عقبات التأليف، كما مذذاك، تقتصر على النزاعات المحوطة بالثلث +1، وحصة رئيس الجمهورية، وتحديد الأفرقاء الأقوياء سلفاً حصصهم وحقائبهم بأنفسهم وفرضها على الرئيس المكلف، وامتلاك كل من هؤلاء فيتو يمنع التأليف ما لم يُسترضَ، بل انضمت إلى هذه أعراف محدثة ستكون قاعدية وأساسية، لعل منها:
1 - رغم أن الدستور ينيط برئيس الجمهورية توقيع مرسوم تأليف الحكومة فلا يصدر خالياً منه، إلا أن مسار الاسبوعين الاخيرين من التكليف أفصح، بالممارسة وليس في النص، عن أن الرئيس شريك أساسي في التأليف. ما تنيطه المادة 53 بالرئيس المكلف هو اقتراح صيغة حكومية وحملها إلى رئيس الجمهورية كي يناقشاها ويتفقا عليها. بالفعل حمل الحريري، أكثر من مرة، أكثر من صيغة إلى عون لم تحظَ بموافقته، فلم تصدر المراسيم. إلا أن الرئيس المكلف، في سابقة مشهودة للرئيسين رشيد كرامي أعوام 1969 و1975 و1987 ورفيق الحريري مراراً بدءاً من عام 1994، اختار طريقة سلفيه ــ غير الشبيهين حتماً ــ الاعتكاف وهو لما يزل رئيساً مكلفاً وليس رئيساً دستورياً للحكومة.
منذ تعثّر إصدار المراسيم في 29 تشرين الأول، نحّى نفسه عن مهمته بعدما وضع لاءاته الثلاث: رفض توزير أي من النواب السنّة الستة، أو مَن يمثلهم، أو منح أحد منهم حقيبة من حصته. مذذاك انتقلت مهمة التأليف إلى رئيس الجمهورية بعد إمرار قرابة أسبوعين من الفراغ، والتوقف عن بذل أي جهد جدي، فأجرى منذ 10 كانون الأول سلسلة مشاورات بدأها بالرئيس نبيه برّي، ثم الحريري، ثم في الايام التالية حزب الله وصولاً إلى النواب الستة أنفسهم، انبثق منها تكليف المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم معالجة أزمة المقعد السنّي السادس. على مرّ هذا الوقت، ما لم يكن على سفر، اكتفى الحريري بالتفرّج ـــ هو الرئيس المكلف ـــ كأي فريق سياسي آخر، معلقاً بحبال اللاءات من جهة، وجاعلاً من موقعه كرئيس مكلف في مكانة الخصم والعدو حتى لأولئك يرفض استقبالهم أو مناقشة مطلبهم معه من جهة أخرى.
بذلك لم يُعزَ في أي من المراحل الأخيرة للتأليف إلى الحريري فضل إبصار حكومته النور، بقدر ما بدا رئيس الجمهورية المعني المباشر بإنهاء المأزق. دور كهذا لم يشهده أي من الحكومات المتعاقبة منذ عام 2005، عندما يمسك رئيس الجمهورية بمفرده بزمام المبادرة، ويكون الرئيس المكلف كسواه من الأفرقاء يُستمزج رأيه.
2 - لا ريب في أن رئيس الجمهورية كرّس، لمرة أخيرة، وجود حصة له في أي حكومة جديدة، سواء اتسع الجدل من حولها أو ضاق. سببان ثبّتاها: أولهما عندما قال عون بحقه في تسمية نائب رئيس الحكومة في حصته، وعندما وافق على التنازل عنه. في كلتا الحالين هو صاحب حق الاحتفاظ وحق التخلي عنه. ثانيهما عندما قَبِلَ بخفض حصته من أربعة وزراء كما في حكومة 2016 إلى ثلاثة في الحكومة الجديدة من أجل تذليل آخر عقبات التأليف. من دون موافقته هذه كان من شأن المأزق أن يستمر الى ما شاء الله، في ظلّ تشبّث الحريري بلااءاته الثلاث قبل أن يتخلى، في اتفاقه مع اللواء ابراهيم، عن اثنين منها.
على نحو كهذا، يُعزى إلى عون وحده تذليل العقد الثلاث المتلاحقة، الدرزية بتسميته هو الوزير الدرزي الثالث، والمسيحية بتخليه عن نيابة رئاسة الحكومة لحزب القوات اللبنانية، والسنّية بتخليه أيضاً عن المقعد السنّي السادس. مع ذلك يظلّ الرئيس يحتفظ بحصة من ثلاثة وزراء، للمفارقة، ثلثاها «وديعة» لديه.
3 - رغم كل الضجيج الذي أحاط بالصلاحية الدستورية المنوطة بالرئيس المكلف، وأن أحداً ــ سوى توقيع رئيس الجمهورية ـــ لا يقاسمه إياها، قدّم الحريري أنموذجاً مختلفاً بأن برهن، أكثر من اي وقت، على أن في وسع الرئيس المكلف ـــ أي رئيس مكلف ـــ تجميد تأليف الحكومة أكثر منه قدرته على إيجاد الحلول لإخراج التأليف من مأزقه. لم يُدلِ بأي اقتراح أو تسوية سوى الجهر برفض ما عُرض عليه، والواقع أنه فُرض عليه. لم يسعه الجزم بأن في وسعه تأليف حكومته في معزل عن الآخرين أو فرض شروطه كرئيس مكلف عليهم.
ما حدث طوال يوم أمس بإزاء الخلاف على الحقائب المتبقية كالإعلام والبيئة، ورفض أي من الأفرقاء التنازل عن تلك التي أصرّ عليها لقاء الحصول على إحداهما، خير دليل على وجود شركاء للرئيس المكلف في التأليف. بل أكثر من ذلك، لم يعد دوره، حيال «القيادة الجماعية» لتأليف الحكومة، سوى أن يكون مديراً لهذه المهمة ليس إلا.
نهاية التكليف أفصحت عن أن رئيس الجمهورية أكثر من شريك في التأليف


4 - بالتأكيد نجح الحريري في فرض واقع جديد من شأنه أن يمسي سابقة بعد تعثّر السجالين الدستوري والسياسي، هو أن أحداً لا يسعه بعد الآن انتزاع التكليف من الرئيس المكلف، أي رئيس مكلف، سواء كان مجلس النواب صاحب اختصاص تسميته، أو رئيس الجمهورية بتوجيهه رسالة إلى البرلمان لإنقاذ تعذّر التأليف. لأسباب مذهبية بحتة، ولئلا يُفسّر هذا الانتزاع على أنه يستهدف طائفة برمتها، بات التكليف مطلقاً بين يدي صاحبه. ما لم يعتذر من تلقائه، أو يُرغم عليه لأسباب ما، لن يكون في مقدور أي طرف التسلح بذريعة دستورية.
5 - للمرة الأولى في آلية تأليف الحكومات، يدخل عليها طرف ثالث سوى رئيس الجمهورية والرئيس المكلف. كي تبصر الحكومة النور يقتضي توقيعاهما معاً على المرسوم بحبر أزرق أو أسود. من الآن فصاعداً، حتى إشعار آخر، سيكون في كل مرسوم تأليف حكومة توقيع بحبر غير مرئي، هو الذي يمهره حزب الله بعدما تحوّل إلى شريك فعلي في تأليف الحكومة. لعلّ تجربة النواب السنّة الستة، بتدليعهم بداية ثم بضبطهم وفرض تمثيل تيارهم، خير دليل على أن دوره في الداخل، بفعل فائض قوته أو بفعل امتلاكه مع حركة أمل ناصية قرار طائفته ـــ الأمر غير المتاح للحريري ـــ بات يتجاوز الآلية الدستورية المعتادة لتأليف الحكومة. بعدما بات توقيع وزير المال شيعياً، ها هو يمهر التأليف بحبره الخاص.