كان البابا يوحنا بولس الثاني ينظر إلى البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير كما ينظر إلى مرشده وصديقه الكاردينال البولوني ستيفان ويزينسكي، الذي واجه السوفيات في بولونيا. هذه النظرة اختصرت لسنوات العلاقة بين الفاتيكان والكنيسة المارونية في عصرها الذهبي، وجعلت من البابا الراحل سنداً للبنان، وللكنيسة المارونية.صحيح أن اهتمام الفاتيكان بلبنان والكنيسة المارونية، لم يكن قائماً على العلاقة الشخصية بين البابا وبطريرك أنطاكيا وسائر المشرق، كون الكنيسة المارونية مرتبطة تاريخياً بكنيسة روما، لكن الطابع الشخصي كان مؤثراً ويساهم في تعزيزها أو تراجعها، من دون المس بالثوابت الأساسية القائمة على الولاء الكنسي. وخلال مراحل السلم والحرب، شهد لبنان انعكاساً لذلك، لا سيما مع إيفاد الفاتيكان موفدين بابويين خاصين لمساعدة لبنان والاهتمام بمسيحييه. إلا أن العلاقة الشخصية لكل من البابا والبطريرك، وشخصيتهما الفريدة، وهما المولودان في أيار عام 1920، وأيضاً الآتيان من معاناة واحدة إلى سدة المسؤولية، ساعدت في إرساء علاقة اهتمام متزايدة بموارنة لبنان وكنيستهم.
لم يعد خافياً أن الصلة، اليوم، على رغم كل محاولات النفي المتزايدة في الآونة الأخيرة، لا تشبه تلك التي ربطت الفاتيكان بالكنيسة المارونية، حتى في المرحلة «الانتقالية» التي تسلم فيها البابا بنديكتوس السادس عشر البابوية وحافظ على اهتمام سلفه بها وخصه أيضاً بزيارة. يمكن الكلام عن طابع شخصي، لكن أيضاً عن يوميات العلاقة وتفاصيلها التي يتم تداولها في أروقة الرهبانيات والأبرشيات والدوائر الرسمية، بما يجعل من المستحيل تخطي الاعتبارات التي تتحدث عن واقع سليم وصحي بين الطرفين. المشكلة لا تتعلق فقط بأداء بكركي أو تصرفات مطارنة وكهنة ورهبان وراهبات، وما يرسل إلى الفاتيكان من تقارير مليئة بالأخبار والأحداث التفصيلية، بل يمكن القول أيضاً إن البابا المنتمي إلى رهبانية لا تكنّ، تاريخياً، ودّاً للكنيسة المارونية، لا يتعاطى مع كنيسة لبنان وفق امتيازات خاصة بها. هو الآتي من خلفية كنسية مختلفة، وإن كان يعرف ممثلين للكنيسة المارونية في بلاد الانتشار، لا سيما في أميركا اللاتينية، نجده يصب اهتمامه في مكان آخر. اليوم يقال في الفاتيكان - إضافة إلى محاولته الإعلامية فتح باب المحاسبة الداخلية ولا يزال يتهم بتغطيته ملفات كثيرة تحتاج إلى محاسبة - أنه يقدم حالياً علاقته بالصين على غيرها، وذلك لتعزيز وضع الكاثوليك فيها، إضافة إلى إعادة الاعتبار لدور الكاثوليكية في أوروبا. هذا في حين أن أكثر من يعرف دهاليز الفاتيكان يتحدث عن دور الكنيسة الكاثوليكية المتراجع في أميركا اللاتينية، حيث تشكل البرازيل أحد أبرز الأمثلة الفاقعة عن صعود البروتستانتية، سياسياً وشعبياً، وذلك على حساب الكاثوليك وكنيستهم.
صار الحديث عن أخطاء في رهبانيات ومطرانيات ومؤسسات مملاً لكثرة الفضائح


هذا النموذج، يبدو ضرورياً، للإشارة إليه، حين يكون الكلام عن أسلوب البابا وتعامله مع الكنيسة المارونية، وهي كنيسة قائمة بذاتها، يطرح الكثير من التساؤلات. فكنيسة روما بدأت تتبرم من كنيسة لبنان، بل «تيأس» من إصلاحها، إلى حد قول من لا يزال يكنّ اعتباراً واحتراماً لها: «عليكم إنقاذ أنفسكم لأن لا أحد يمكنه أن ينقذكم إذا لم تقوموا بإصلاح كنيستكم». في لقائها الأخير مع البابا، وهو اللقاء الذي كان يفترض أن يشكل محطة انتقالية وواقعية وضرورية كحدث استثنائي في تاريخ الكنيسة المارونية، انتفى كل رهان إيجابي أو سلبي على إحداث متغيرات. لم يكن الحديث عن تغيير الأشخاص، فذلك لم يكن أولوية على جدول الأعمال، بل الأداء والمحاسبة الفعلية، وإعادة انتظام عمل المؤسسات الكنسية وفق القانون، لا وفق المحسوبيات وتبادل الخدمات والتغطية على الشوائب والأخطاء التي أصبحت لا تحصى. الإشارة هنا إلى أخطاء في رهبانيات ومطرانيات ومؤسسات، صار الحديث عنها مملاً لكثرة فضائحها، حيث يجري الاحتفال على أعلى المستويات بالمبعدين والمرتكبين احتفالاً كنسياً رسمياً.
الأكيد أن «غسيل قلوب» وترتيبات ووعود بتنفيذ سياسات مطلوبة بعيداً من الإعلام، والبيانات الرسمية، قام بها أحد رجال الأعمال النافذين في الفاتيكان، سبقت المؤتمر المذكور، وجعلت الاجتماع الأول من نوعه منذ سنوات طويلة يتحول إلى مجرد حوار وأسئلة وأجوبة من دون مكاشفة في العمق. رافق ذلك اجتماع إعلامي وسياسي وعلماني وكنسي موسع أُعدّ مسبقاً بالتنسيق مع البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. البابا لم يردع نفسه عن الغمز من هذا اللقاء الموسع، لأن ما كان يصله من أخبار عن احتفاليات وعن مظاهر كنسية يشتكي منها، لمسها بنفسه. مشروع إصلاح الواقع الكنسي والإداري، الذي تحدث عنه البابا، والعمل وفق القوانين النافذة، لن يخرج إلى النور في لبنان. كل من يعرف الكنيسة من الداخل يدرك ذلك، وهو على يقين أن ما سمعه الأحبار في روما، بقي في روما، ذلك لأن الترتيبات التي سبقته أفعل وأشد تأثيراً. إضافة إلى ذلك، ثمة شخصيات فاتيكانية نافذة ترعى، منذ سنوات، هذه الترتيبات وتغطيها ولا تزال حاضرة بقوة إلى جانب البابا.

استاء الفاتيكان من تسريب النواب اللبنانيين محضر اللقاء مع وزير الخارجية


في السياق نفسه، إشارة إلى أنّه حتّى في الشأن السياسي، تميزت كنيسة روما عن كنيسة لبنان. آخر مثال على ذلك هو قضية النازحين. دوائر الفاتيكان استاءت من تسريب النواب اللبنانيين محضر اللقاء مع وزير الخارجية الفاتيكاني بول ريتشارد غالاغر، لأن ما قاله عن أزمة النازحين كان في اجتماع مغلق، ويتناقض مع السياسة الرسمية للفاتيكان، وهو لم يكن موقف الفاتيكان بل مواقف أميركية ودولية نُقلت إلى الكرسي الرسولي، الذي لا تزال بعض دوائره الضيقة تولي لبنان وكنيسته اهتماماً تقليدياً. كل ذلك لا يمنع أن البابا، تحديداً، لديه سياسة مختلفة حول قضية النازحين والأبواب المفتوحة أوروبياً وعالمياً، فيتناولها من زاوية «إنسانية – مسيحية» لا تأخذ في الاعتبار الواقع السياسي للدول التي يلجأ إليها النازحون. هذا أمر اختلف فيه مع قادة أوروبيين، فكيف بالحري مع لبنان الذي تشكل فيه هذه الأزمة تجاذباً في المواقف السياسية، بعدما تحولت عبئاً اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً عليه، حيث كثرت الدعوات إلى إعادتهم إلى بلادهم. موقف كنيسة لبنان لا يختلف هنا عن هذه المواقف، في حين أن الفاتيكان يريد التعامل مع الأزمة وكأنها أزمة لاجئين فحسب، من دون أن يلحظ الواقع اللبناني. هذا أمر كان الكرسي الرسولي عادة يتعامل معه كأولوية، علماً أنه يتفادى التعامل مع المسيحيين والموارنة في لبنان كحالة مستقلة، بل من زاوية الوجود المسيحي العام في الشرق، في شكل يختلف تماماً عن النظرة الفاتيكانية السابقة.
الانهيار الداخلي في كنيسة لبنان لا يعفي الفاتيكان من مسؤوليته في التخلي عنها، خصوصاً حين تدعو الحاجة. وبقدر ما يرفض البعض «الليتنة» وتدخل الفاتيكان في كل شاردة وواردة، حين تكون مصالحه في الاعتبار، كون كنيسة أنطاكيا وسائر المشرق قائمة بذاتها، يمكن الكلام عن إدارتين تحملان من الشوائب الكثير ما يجعل إصلاح الأمور متعذراً، طالما أن هناك من سيبقى يرعى الترتيبات بعلم الفاتيكان وكنيسة لبنان.