بجسمٍ نحيل وعينين غارقتين في الوجه الأسمر، يقف مبتسماً لرسم فيروز المعلّق على الحائط. يحمل رسماً آخر لوديع الصافي في يمناه ويقبض على بورتريه لمحمود درويش في يسراه. يشرح الفنان التشكيلي الفلسطينيّ محمود المصري السياق الذي دفعه إلى اختيار هذه اللوحات للمباشرة بالحديث عنها. في الأمر محاولة منه للموازنة بين رموز المكانين أو الهويّتين اللتين ينتمي إليهما: لبنان الملجأ وفلسطين القضيّة.اختار محمود العيش في مخيّم صبرا للاجئين الفلسطينيّين لأن «الحركة فيه أكبر»، مع أنّه في الأصل من سكان مخيّم مار الياس. استقرّ في مكتب يعرض على أحد جدرانه رسم فيروز منفرداً، فيما تستريح بقية اللوحات على الأرض. في ردهة الاستقبال، كرسيّان غير مغريين للجلوس، وطاولة رُصفت عليها أعداد من مجلات قديمة وجرائد وملاحق أدبيّة. يجاور المكتب «الفوضوي» عيادة طبيّة، تدخّل محمود في تجميل مدخلهما المشترك. على جانبي الباب رسَم «جداريّتين»، واحدة لقلعة صيدا وأخرى لمشهد طبيعي هادئ. لا يمتّ الرسمان إلى واقع المخيّم بصلة، لولا لافتة تشير إلى وجود «الخطاط والرسام محمود المصري». ومحمود ليس رسّاماً وحسب، بل خطاط أيضاً. يسرد «في الخامسة عشرة من عمري بدأتُ أرسم هاوياً وأخطّ بالعربيّة. لاحقاً، تمكّنتُ من تعلّم الرسم بعد التحاقي بدورة تدريبية. توازياً نمّيتُ موهبتي في الخط العربي إلى أن حصلتُ على شهادة فيه».
وقّع محمود إلى الآن جداريّات عدة لوّن بها جدران المخيّمات الباهتة، كما ذيّل توقيعه عشرات اللافتات المتدليّة في مخيّمات مار الياس وصبرا وشاتيلا والأماكن المجاورة لها. في «مكتبه» في صبرا يتفاوضُ مع الزبائن حول اللافتات المطلوبة، «ثم أخرجُ إلى أحد الكاراجات القريبة لتخطيطها. المساحة هنا غير كافية لأتمكّن من الكتابة على قماش لافتة يصل طولها إلى 5 أمتار، هذه مثلاً يصل سعرها إلى 20 دولاراً أميركياً».
يتنقّل الرسام الفلسطينيّ بين سكن أهله في مخيّم مار الياس وعمله في صبرا. يروي تبعات النكبة عليه وعلى عائلته: «خرج أهلي من يافا بين وفود المهجّرين، وحلّوا في مخيّم مار الياس للاجئين في بيروت. بلغتُ الـ45 ولم أتمكّن من الحصول على عمل ثابت بمرتّب شهريّ مقبول. تطوّعت في جمعيّة الهلال الأحمر في شاتيلا حيث أعطي دروساً خاصة بالرسم للأطفال. عملتُ سابقاً في القسم الفني لمؤسسة صامد التابعة لمنظمة التحرير (الفلسطينية)، لكن المؤسسة أُقفلت بعد حرب المخيّمات، مما دفعني إلى الرسم الحرّ على حسابي». يستغرق رسم «البورتريه السريع نحو ساعتين، أستعمل فيه أقلام الرصاص الخاصة والخشب والأكريليك» يقول.
بين الرسوم الكثيرة، بورتريهات لفنانين وممثلين من سوريا ولبنان ومصر وفلسطين ممن ظنّ أن رسومه قد تصل إليهم يوماً. «حاولت التواصل مع بعضهم عبر فايسبوك، رابعة الزيات وكاظم الساهر مثلاً، علّهما يقدّران رسومي لهما» يردف. «فشل» المحاولة لم يثنِه عن متابعة نشر رسوماته عبر حسابه الخاص على «فايسبوك». إلى جانب رسوم الفنانين والإعلاميين والأماكن الأثرية والمشاهد الطبيعيّة، لمحمود لوحات أكثر محاكاة لواقع فلسطين المحتلّة: جدار الفصل العنصري تخترقه فجوة بشكل خارطة البلد المحتلّ، حمامة بيضاء ترفرف فوق المسجد الأقصى، الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات رافعاً علامة النصر، وختيار يعتمر الكوفيّة ويحمل مفتاح العودة. قد لا تخرج موهبة محمود عن الرسم التقليدي في تمثيل الأماكن أو الناس، وهو بذلك لا يعدّ فناناً تشكيلياً فذّاً... لكنّه حتماً من صنف الفنانين الإنسانيين الذين يقهرون الألم ويرتبطون بمكانهم مهما بئِس حالهم، مكبّين على تجميله.