قبل خمس سنوات، وُلد أحمد بـ«صحة جيدة». كان طفلاً هادئاً. لكن مع إتمام عامه الأول، تبين أن هدوءه سببه إصابته بـ«الصمم». كان ذلك بداية مشوار طفلٍ يحمل «حاجة خاصة». مشوار خيبات متعب في بلاد يعيش فيها من لا يملك تلك الحاجة بشقّ النفس، فكيف بمن يحملها؟الخيبة الأولى أنه كان يمكن تفادي هذه «الحاجة الخاصة»، أو على الأقل التخفيف من وطأتها عند الولادة، بإجراء طبّي في المستشفى «يتنبّأ» بتدهور الحاسة السمعية مع الوقت. هذا ما قاله الطبيب في ما بعد، لكن بعدما فات الأوان. فالمعدّات الطبية التي تشخّص ذلك لا تزال محدودة، وهذا «الفحص» لا يُجرى إلا بناءً على طلب أهل المولود، لأنه ليس مجانياً، ولا يدخل ضمن فاتورة الإستشفاء!
ولأنه لم يحظَ بتلك «الفرصة»، كان عليه أن يعيش، يوماً بيوم، قصة تلك «الحاجة» التي لطّفوها وسمّوها «خاصة». سيشتري «سماعة» أذنٍ كي يستعيد سماع الأصوات التي فاتته في بداية طفولته. وسيعي، في وقت مبكر، أن «حاجته الخاصة» دونها تكاليف باهظة للمستشفى والطبيب ومعالج النطق، و... «أكسسوارات». 4 آلافٍ و200 دولار، مثلاً، ثمن جهازي سمع يعلقهما خلف أذنيه. هنا، لا مكان للتقسيط. الدفع «كاش» كي يأتيه أوّل صوتٍ. هذا المبلغ الذي يساوي ستة أضعافٍ ونصف ضعف الحد الأدنى للأجور، لم تسترد منه العائلة من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي سوى 900 دولار، بعد تسعة أشهرٍ من تقديم المعاملة! بعد عامٍ ونصف عام، تبيّن أن سماعتي الأذن لم تفيا بالغرض، فالصوت الواصل إلى أذني أحمد لا يسعفه على تعلّم النطق. المطلوب إجراء جراحي لتركيب جهاز داخلي يوصل الصوت واضحاً، ثمنه 36 ألف دولار، إضافة إلى 11 ألفاً إضافية أتعاب الطبيب والمستشفى. هنا، لا جهة رسمية ضامنة ولا تأمين خاصاً يتكفلان بتسديد جزء ولو يسيراً من هذا المبلغ، لأن الجهاز يُصنّف «أكسسواراً»! أن يستخدم طفل أصمّ جهازاً لمساعدته على السمع والتواصل مع محيطه هو، إذاً، ترف ورفاهية!
مع الوقت، سيكتشف ذوو أصحاب الاحتياجات الخاصة أن ما يسمى بطاقة تأمين أو ضمان لا فائدة منها، بل هي «الترف» في حد ذاته. ومثلها بطاقة «المعوّق» الصادرة عن الهيئة الوطنية لشؤون المعوقين. فهذه الأخرى لا شيء قد تقدّمه سوى تذكير الأهل بأن طفلهم «معوّق».
أجهزة السمع تسمّى «إكسسوارات» ولا تعترف بها الجهات الضامنة


مع كل «استحقاق» يواجهه صاحب «الحاجة الخاصة» يتكشّف عري هذا النظام. اليوم، صار أحمد في الخامسة. وهو العمر الذي يفترض فيه أن يدخل معه إلى المدرسة. لكن، لا خيارات مدرسية كثيرة، فالمدارس التي تعتمد منهاجاً دامجاً، وتحديداً لمن يملكون صعوبات سمعية، محدودة جداً. هنا، أيضاً تسجّل الدولة غياباً، إذ لا تزال تجربة الدمج في مدارس «الدولة» خجولة. لا خيارات أمام عائلة طفلٍ يعاني من الصمم سوى البحث، بين المدارس الخاصة الدامجة، عن مدرسة بمواصفات تعليمية جيّدة وبكلفة مادية «مناسبة». يبدأ البحث على هذا الأساس، ولكن منذ اللحظة الأولى، سيكتشف هؤلاء أن «الحاجة الخاصة» لها «تسعيرة» إضافية فوق القسط الذي يدفعه التلميذ «العادي». تختلف بحسب كل حالة. في حالة طفلٍ أصمّ، ثمة درجات من التدخلات التعليمية (تدخل طفيف أو جزئي أو كلي) تختلف معها «التسعيرة» في المدرسة الواحدة، وبين مدرسة وأخرى، بحسب «المناهج التي تعتمدها كل مدرسة والتقنيات المختلفة»، على ما تقول مسؤولة عن وحدة «ذوي الاحتياجات الخاصة» في إحدى المدارس. وهذا خاضع للتأويل، كما أنه خاضع، بوضوح، لاستغلال أصحاب الاحتياجات الخاصة لتحقيق أرباح طائلة. وإلا فكيف يمكن تفسير الفارق الشاسع في كلفة الدمج بين مدرسة وأخرى؟ ففي مدرسة أولى، تشير العاملة في المحاسبة إلى أن كلفة الدمج تراوح بين مليون ونصف مليون ليرة وأربعة ملايين ونصف مليون، فوق القسط الأساسي، «بحسب حالة الطفل، بعد إجراء التشخيص التربوي». وفي مدرسة ثانية تراوح كلفة الدمج بين خمسة ملايين و200 ألف ليرة، وسبعة ملايين ونصف مليون. وفي مدرسة ثالثة «كلاس» تراوح بين عشرة ملايين ليرة و15 مليوناً! هذه عيّنة بسيطة عن مدارس دامجة خاصة جداً. مدارس يفترض أنها «لا تبغي الربح». صحيح أنه من منظور تلك الإدارات، يحتاج هؤلاء الأطفال إلى تدخلات إضافية عن الطلاب «العاديين»، إلا أن ذلك لا يبرّر الفروقات الشاسعة في «تسعيرة» التدخل التعليمي بين مدرسة وأخرى. ماذا يعني، مثلاً، أن تصل كلفة التدخل الطفيف (الذي يتطلب وجود shadow teacher مع الطفل) إلى 7 ملايين ليرة في مدرسة و9 ملايين في أخرى و12 مليوناً في ثالثة، سوى الجشع، ولو على حساب حق أحمد وأقرانه بالتعلّم.



ذوو الإعاقة «غير مرئيّين»!
يرتكز ماهر أبي سمرا، مخرج الفيلم القصير «هيك قالوا» حول معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان، على نظرة «فلسفيّة» خاصة ليلخّص تجربته ومشاهداته. يقول: «نحن في مجتمع يحوّل الشخص المعوّق إلى شخص متخيّل وغير مرئي معزول في مؤسسة مخصّصة له». جرى تصوير الفيلم (أنتجه اتحاد المقعدين اللبنانيين) في مركز اتحاد المقعدين في مدينة بعلبك، واستعرض معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة وما يعرقل حياتهم وطموحاتهم ضمن المنزل ومكان الدراسة والعمل. من خلال هذه التجربة، يرى أبي سمرا أن «لا احترام للتنوّع في مجتمعنا، لا مساحة للأشخاص المعوّقين داخل المدينة، كذلك كبار السنّ، لا نراهم في الشارع ولا في المدرسة. هم موجودون في مؤسسات رعاية خاصة بهم، لكنّها مؤسسات عزل تصنّفهم وفق ما لا يقدرون على القيام به، مراكزها غالباً في أماكن بعيدة عن الحياة وكأن من ترعاهم مجموعة غير مرئيّة». أزمة عدم احترام التنوّع برأيه «أزمة مستفحلة في المدينة، وهي أزمة عامة في مدن العالم، لكنها أزمة أكثر عمقاً في مجتمعاتنا». المشكلة ناجمة، وفق أبي سمرا، من مؤسسات الرعاية الخاصة التي يسمّيها «مؤسسات العزل والتي يتّخذ المجتمع مفاهيمه على أساس مفاهيمها». ومفاهيم تلك المؤسسات قائمة «على استمرارية المؤسسة بتقاضي الأموال من الدولة والإمعان في نظرة الشفقة إلى ذوي الاحتياجات».