ثمة حملة استباقية لمنع النقاش في خفض الدين العام كمدخل لمعالجة الأزمة المالية ـــ النقدية. يقود حاكم مصرف لبنان رياض سلامة هذه الحملة في الاجتماعات المغلقة، وتروّج لها هيئات أصحاب العمل علناً. يهدّدون بإمكان حصول انهيار نقدي ناتج عن «قرار خاطئ» بإقرار سلسلة الرتب والرواتب، ويغفلون عمداً الحديث عن وجود «عطب» في أساس النموذج الاقتصادي الذي أعطى الكثير للمنتفعين وحجب الكثير عن المحتاجين. مطلب القائمين بالحملة واضح: المزيد من أخذ الكثير من المحتاجين!تتماهى هيئات أصحاب العمل مع مصرف لبنان في الدعوة إلى إجراء «إصلاحات» مالية على رأسها تقليص حجم القطاع العام. لا يُروّج لهذا الأمر على أنه خيار ينطوي على أولوية قصوى لمعالجة الأزمة المالية ـــ النقدية المتنامية فحسب، بل تزعم الهيئات، كما نقل عن رئيسها محمد شقير وعدد من أعضائها، أن الخيارات محصورة بأمرين: تجميد تطبيق سلسلة الرتب والرواتب لمدة ثلاث سنوات، أو انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار. هذه المقاربة لا تخلو من حقد تجاه العاملين في القطاع العام الذين يعدّون ضحايا «نموذج» يعتمد على جذب التدفقات المالية من الخارج وتركيزها محلياً بيد القلّة الحاكمة وأدواتها. والهيئات، تمثّل هذه القلّة وتعبّر عن رفضها لأي مقاربة مبنيّة على أساس توزيع الخسائر بين «المنتفعين» و«الضحايا». المنتفعون اقتنصوا 92% من الدين العام، أو ما يوازي 75 مليار ولار دفعتها الخزينة فوائد على أصل الدين، في مقابل الضحايا الذين وجدوا وظيفة «بطلوع الروح»، أو استجدوا وظيفة من هذا الزعيم أو ذاك ويهدّدهم أصحاب العمل ومصرف لبنان بتجميد سلسلة الرتب والرواتب، بذريعة تلافي حصول انهيار نقدي.
ترتيب الأولويات وفق مصالح الجهات الأكثر قوّة هو جزء من بنية عمل النموذج الاقتصادي اللبناني. في مقابل إنكار وجود «أعطال نظامية» (على حدّ وصف البنك الدولي)، لا يجد الأكثر قوّة مانعاً من اتهام فئات أخرى بالتسبب في الأزمة رغم أنه لا يد لها في تأسيس هذا النظام ولا في إدارته. والأعطال النظامية بدأت تظهر مع نزاع بين وزارة المال ومصرف لبنان على تمويل الخزينة العامة. حتى منتصف هذه السنة، لم يكن مصرف لبنان يمانع الاكتتاب بسندات الخزينة الجديدة الصادرة عن وزارة المال، إلا أنه فجأة قرّر الامتناع عن الاكتتابات في ظل وجود حاجات متواصلة للخزينة قد لا تكون كافية لأكثر من 40 يوماً.
ليس هذا النزاع عابراً بين الطرفين، بل هو أحد أوجه الأعطال النظامية التي حذّر البنك الدولي من حدوثها. وهو أيضاً ليس نزاعاً عادياً حول كلفة الفائدة، بل هو نزاع على تحديد الأولويات للحفاظ على النموذج. فهل هي أولويات تثبيت سعر صرف الليرة أم أولويات أخرى؟
هذه هي النقطة المحورية التي عقد على أساسها اجتماع بين رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير المال علي حسن خليل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة قبل أيام. والمفاجأة أن سلامة الذي كان قد جال على المسؤولين وحذّرهم من صعوبات وتحديات الأوضاع المالية والنقدية، بدأ يتحدث مباشرة عن السبب الفعلي وراء قرار مصرف لبنان الامتناع عن الاكتتاب بسندات الخزينة. في رأيه أنه بسبب إقرار سلسلة الرتب والرواتب، ضخّت في السوق مبالغ أكبر من تقديرات وزارة المال، ما أدّى إلى ارتفاع التضخّم عن المعدلات المحبذّة (وصل إلى 7% فيما يجب أن يبقى أقل من 5%)، وارتفاع الطلب على الدولار، لأن غالبية السلع الاستهلاكية في لبنان هي مستوردة، وبالتالي ندفع ثمنها بالدولار، ما يعني أن ضخّ مبالغ بالليرة في السوق يتحوّل طلباً على الدولار.
نسبة 92% من الدين العام دُفعت فوائد استفادت منها القلّة


بحسب المعلومات، فإن سلامة لم يقصد حصراً لوم وزارة المال على تقديراته الخاطئة بشأن كلفة سلسلة الرتب والرواتب، بل انطلق نحو الحديث عن عدم وجود أي برنامج أو خطّة اقتصادية للوزارة، فيما لبنان التزم في مؤتمر «سيدر» بإصلاحات على رأسها تقليص القطاع العام، وبالتالي فإنه ليس مضطراً إلى التفريط باحتياطاته بالعملات الأجنبية في ظل هذا الوضع. وبحسب مصادر مطلعة، فإن «الاجتماع لم يكن جيّداً، رغم أنه يمكن القول إنه ليس عاطلاً، إذ لم يتم التوصل إلى اتفاق بل تأجّل النقاش إلى اجتماع مقبل». وتقول المصادر إن إشارات سلامة كانت واضحة إلى ضرورة «التخطيط لتقليص القطاع العام» في مقابل الحفاظ على سياسة تثبيت سعر صرف الليرة.
ليست المرّة الأولى التي يشير فيها سلامة إلى هذا الأمر. ففي لقاءاته مع رجال الأعمال والمصرفيين والسياسيين، يكرّر سلامة العبارة الآتية: «لا أعلم إلى أي مدى يمكنني الإمساك بالوضع». في الواقع، كان سلامة ممسكاً بزمام السلطة النقدية لأكثر من 25 سنة، وهو تمكن من انتزاع وكالة عامة من السياسيين بإدارة الوضع الاقتصادي أيضاً، لكنه يصرّ اليوم على انتقاد وزارة المال. لذا، فإن المعطيات تشير إلى أن سلامة لا يبدو راغباً في إيجاد حلّ لمشكلة تمويل الخزينة، بل يمارس ضغوطاً نقدية في خدمة أهداف تمزج بين السياسة ومصالح طبقة رجال الأعمال. هو يقول إن رفع فوائد سندات الخزينة من 7.25% إلى 10.50% قد يحفّز المصارف على الاكتتاب في السندات الجديدة التي تصدرها وزارة المال ما يجنّبه القيام بعمليات مكلفة. في السابق كان مصرف لبنان يشتري سندات الخزينة من وزارة المال، ثم يبيع المصارف شهادات إيداع بفوائد أعلى من فوائد سندات الخزينة بنحو نقطتين مئويتين. عملياً، هو كان يقرض وزارة المال بفائدة منخفضة ويقترض من المصارف بفائدة أعلى. إلا أنه في ظل ارتفاع كلفة توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان، وحاجة هذا الأخير إلى التخفيف من خسائره الناجمة عن عمليات إدارة السيولة، بما فيها الهندسات المالية، وبسبب تطبيق معايير المحاسبة الدولية والانتقادات التي وجهها صندوق النقد الدولي لمصرف لبنان، فإن رفع حصّة «المركزي» من سندات الخزينة اللبنانية ليس خياراً.
وتماهياً مع ما يروّجه سلامة، يقود رئيس هيئات أصحاب العمل محمد شقير حملة علنية على «القرار الخاطئ الذي ارتكبته قوى السلطة بإقرار سلسلة الرتب والرواتب». شقير قال هذا الكلام أمام الرؤساء الثلاثة، وأخبرهم مباشرة أن هناك ضرورة لتقليص حجم القطاع العام، وأن كلفة السلسلة بلغت 2.5 مليار دولار، وأن الوضع اليوم يفرض علينا تجميد السلسلة لمدّة ثلاث سنوات في انتظار إقرار «إصلاحات»، منها إعادة النظر في أكلاف المتقاعدين وفي تعويضات التقاعد في القوى الأمنية... وإلا فإن الانهيار النقدي سيصبح وارداً.
شقير يقول أيضاً إنه لولا طلب وزير المال علي حسن خليل من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الاكتتاب بسندات الخزينة التي تصدرها الوزارة، لما تمكن من جمع 500 مليار ليرة في آخر إصدار، وإنه جرى الضغط أيضاً على المؤسسة الوطنية لضمان الودائع، لكن عمليات الضغط لا يمكن أن تشكّل حلّاً، بل يجب تقليص القطاع العام أولاً وتشكيل الحكومة ثانياً.
بعض المطلعين يضعون كلام شقير في إطار الردّ السياسي على مطلب توزير سنّي من خارج تيار المستقبل، وهم يرون أنه يسعى إلى الفوز بمكسبين: المكسب السياسي من وراء التهويل بالانهيار النقدي، واستباق النقاش عن خفض كلفة الدين العام (الذي يبلغ أرقاماً قياسية تتجاوز حالياً 5 مليارات دولار أميركي، وستستمر في التصاعد) بالتركيز على «كلفة سلسلة الرتب والرواتب ونتائجها المدمّرة على العملة الوطنية». فالمستفيدون المباشرون من كلفة الدين العام هم أصحاب المصارف وشركاؤهم من كبار المودعين. وهم يريدون الدفاع عن مصالحهم، والسعي إلى إبعاد كأس النقاش حول كلفة الدين العام، بخوض معركة تقليص القطاع العام أو التراجع عن السلسلة. يُضاف إليهم «أصحاب العمل» الذين يرفضون أي تعديل على النظام الضريبي الذي قد يطالهم.
وتقول المصادر المطلعة إن قدرة شقير، ولوبي أصحاب العمل عموماً، على تسويق طروحاتهم أمام السياسيين الجاهلين تماماً بالاقتصاد والمال أو المنحازين إلى فئة رجال الأعمال، تزيد من فرصة هؤلاء في الفوز بمكاسب أكبر إذا قرّرت السلطة تصحيح الوضع المالي والنقدي، أي توزيع الخسائر بشكل طوعي. فالمشكلة أصلاً ليست محصورة في عجز الخزينة، بل إن هذا العجز يشكّل جزءاً من المشكلة. فالمعروف أن النظام المالي في لبنان قائم على تدفقات العملات الأجنبية من الخارج، وهي لم تعد متاحة اليوم كالسابق، فضلاً عن أن حجم الاستيراد بالعملات الأجنبية «يستنزفها»، وهو الأمر الذي يجعل من عملية تثبيت سعر صرف الليرة أمراً مكلفاً. هذا يعني أن التصحيح الطوعي الذي دعا إليه الوزير السابق شربل نحاس، هو أحد العلاجات التي ينطوي على عدالة نسبية في توزيع الخسائر بين اللاعبين من مصرف لبنان ومصارف وأجراء وسواهم. كلّ واحد عليه أن يدفع وفق قدراته، ولا يمكن المساواة بين الذين راكموا الثروات من الاستثمار في الدين العام ومن آليات استقطاب الدولارات وأدوات الاستدانة، مع مداخيل الطبقة المتوسطة والفقيرة.