«زلّتان فرويديتان» للقوات اللبنانية، في الجلسة التشريعية أول من أمس، كشفتا حقيقة موقفها من «بناء الدولة». في ملف الكهرباء، الخصخصة هي الحل الوحيد. والخصخصة هنا على طريقة «جمال باشا» و«والي دمشق» والمتصرفية. وفي قضية المختفين في الحرب الأهلية، تُسقِط الميليشيا السابقة ما يستر دورها في الحرب، مصرّة على رفض محاسبة المسؤولين عن إخفاء آلاف اللبنانيين، رغم إصرارها لسنوات على أن سوريا هي الخاطف الوحيد للبنانيين.يقول مطلعون على اجتماعات حزب القوات مع المعنيين بملف الطاقة إن «حراس معراب» لم يخفوا يوماً خطتهم الأساسية: خصخصة قطاع الكهرباء. لكن الخصخصة في القاموس القواتي لا تقوم على فتح السوق أمام شركات تتنافس على الخدمة الأفضل بالسعر الأرخص، بل الخصخصة على الطريقة العثمانية، أي عبر احتكار شركة واحدة لمورد عام واستغلاله لتقاضي أرباح طائلة مع تمنين المواطنين بالخدمة المقدمة التي يدفعون ثمنها أضعاف سعرها الحقيقي. وفعلياً، استشراس وزراء القوات في جلسات الحكومة لم يكن إلا من هذا الباب. فوفقاً للمصادر، تمحور الطرح القواتي حول توكيل شركة كبيرة في كل قضاء بتنظيم «مافيا» المولدات، وضبط عملها ودرّ الأرباح كلها في مكان واحد. وطبعاً، المادة الأساسية في هذا الاقتراح، أن تكون الأحزاب هي الممسكة بهذه الشركات، فتتحول الأرباح تلقائياً إلى صندوق الحزب لتكون وسيلة تمويله الأساسية. بمعنى آخر، لا معامل إنتاج ولا بواخر، ولا من يحزنون، «لنفرض أمراً واقعاً بقوة الامتياز». ونموذج شركة كهرباء زحلة التي يديرها أسعد نكد عبر امتياز من أيام المتصرفية، هو النموذج المحبب إلى قلب القوات، وهو ما دفعها إلى المبالغة في الصراخ والدعوة إلى التظاهر، علّ اقتراح النائب جورج عقيص بالتمديد لامتياز نكد يمرّ فيشرّع معه اعتماد التجربة في كل لبنان. وبالمناسبة، كهرباء زحلة تربح لسبب وحيد: أنها تشتري الكهرباء من مؤسسة كهرباء لبنان، بالسعر المدعوم، أي ما يعادل 50 ليرة للكيلو واط، فيما تعيد بيعه للمواطن بأضعاف السعر الذي تحصل هي عليه.
مبدأ التشجيع على الخصخصة ليس جديداً على القوات، فمن يراقب عملها داخل الحكومة، يدرك تماماً أنها كانت هدفاً يسعى له وزير الصحة غسان حاصباني، على سبيل المثال. فكان أن عمد في أول فرصة إلى ضرب القطاع العام المسمى مستشفيات حكومية عبر خفض سقفها المالي على حساب رفع سقف المستشفيات الخاصة، وذلك بناءً على نفس القاعدة: من غير المهم ما سيتكبده المواطن على خدمة الكهرباء أو الاستشفاء، ما دام سيحصل عليها في النهاية، شرط أن يحصلوا هم أيضاً على ثمن الخدمة، فيكون الجميع مسروراً. وبات من الصعب اليوم تصديق كذبة القوات عن «مشروع إعادة بناء الدولة»، فيما تبحث عن خلخلة أعمدة هذه الدولة عند كل مفترق، وتجهد لكسر ثقة المواطن بمؤسساته.
مجدداً، لا يمكن الطبعَ أن يغلب التطبع، كما لا يمكن القوات أن تخرج من ماضيها. بدا ذلك واضحاً يوم أول من أمس خلال إقرار قانون المختفين قسراً. لسنوات مضت، ربطت معراب عبارة «المفقودين قسراً» بالمفقودين في السجون السورية، وشكلت رأس حربة في المطالبة باسترجاعهم ومعرفة مصيرهم، مسقطة من حساباتها توسيع «البيكار» ليشمل كل المختفين قسراً، بمن فيهم المفقودون في لبنان، أو لدى العدو الإسرائيلي. وإذا بالمادة 37 من القانون (التي تنص على معاقبة كل من أقدم بصفته محرضاً أو فاعلاً أو شريكاً أو متدخلاً في جرم الإخفاء القسري، بالأشغال الشاقة) تفضح القوات التي اعترض نوابها، مطالبين بإلغاء المادة 37 منه وإعادة القانون إلى اللجان. هكذا، اختار رؤوس حربة هذا الملف في السنوات الماضية أن يخفوا رؤوسهم عند الجدّ، ربما خوفاً من نتائج مادة مماثلة قد تطاول رؤساء أحزاب ونواباً ومسؤولين. وربما لأن البرج الوهمي المبني على تراكم أوجاع الناس، قد هُدِم، فلم يعد تسلقه مربحاً. ينبغي البحث الآن عن مادة أخرى للتجارة، ما دام امتياز زحلة سقط وبات لأهالي المفقودين قسراً قانون حقيقي يخفف، ولو قليلاً، آلام جراحهم.