نسأله: حضرتك مِن أبناء المنطقة؟ لن يُجيب. بالنسبة إليه، هذا سؤال «فخّ» على الطريقة اللبنانيّة. لا يُريد أن يُقدّم إشارة، ولو تلميحاً، تُصرَف كخلفيّة طائفيّة لما قام به. «أنا عربي»... هكذا فقط. يَملك كامل رضا دُكّاناً صغيراً، في بيروت، في منطقة الظريف تحديداً، حوّله قبل أيّام إلى واجهة ضدّ التطبيع مع إسرائيل. رسم علم العدو على الأرض، أمام دكّانه، ليكون مداساً لزبائنه وسائر العابرين. خنقه الحزن، أخيراً، عندما شاهد رئيس وزراء العدو بنيامين نتانياهو ضيفاً في العاصمة العُمانية مسقط. عاد بذاكرته نحو أربعين عاماً، إلى يوم بكى، حزناً وغضباً، عندما زار الرئيس المصري السابق أنور السادات الكنيست الإسرائيلي. كامل مِن صنف الناصريين الذين لم يُتاجروا بالناصريّة. لا يزال يذكر كيف خيّمت الكآبة فوق بيروت يوم رحيل جمال عبد الناصر. اليوم هو حريص على أن يكون وفيّاً لتلك الذكرى، لتلك الجموع، لتلك الآمال... لتلك الـ«بيروت». لا يملك سوى دكّانه، في قلب العاصمة اللبنانيّة، وقد أحاله منصّة سياسيّة «ضد عدوّنا جميعاً». يُمكن للعالم كلّه أن يُطبّع مع إسرائيل، كحكومات وأنظمة، لكن مَن بإمكانه أن يجزم أن كامل «الدكّنجي» وأمثاله سينتهون؟ مَن يُراهن؟ يكفي أن يبقى هناك واحد، فقط، ليقول لا، فيكون بمثابة فتيل يُعيد تفجير الذاكرة. هكذا يحسبها رفيقنا «العربي». أحدهم، مِن المرجفين، قال له: «يا عمّي شو بدّك بهالشغلات هيدي، بكرا إسرائيل بتقصفك». كامل، وإن لم تخفه الفكرة، إنّما هو على قناعة بأنّ العدو ما عاد بإمكانه اليوم أن يفعلها: «مع لبنان صارت قصّته صعبة».بيروت لا يُمكن أن تُطبّع، هي عصيّة، يقولها كامل كمن أحاط بأخبار الغيب. لِمَ بيروت كذلك؟ نسأله. يستفيض: «موقف الكويت مميّز في مسألة التطبيع، ليست كمحيطها الخليجي، لِمَ برأيك؟ أنا أرى هذه الآثار في كلّ بلد نشط فيه الفلسطينيّون. عملنا هنا، في لبنان، مع حركة فتح سابقاً، وتلك مرحلة ليس باليسير أن ينقضي إرثها الاجتماعي. هذا أحد العوامل». يواكب صاحب الدّكان الصغير، الرجل الستّيني، موجة التطبيع التي تضرب المنطقة العربيّة. يعي تماماً لعبة «تلميع إسرائيل». جرت العادة أن يتبادر إلى ذهن أحدنا، في بلادنا، أنّ أصحاب الدكاكين لا يُجيدون التعبير السياسي بمصطلحات «ثقيلة». أو ربّما يعوزهم «العمق». كامل «حالة» تكسر تلك الصورة النمطيّة. هو مِن صنف تكرهه إسرائيّل جدّاً. لسان حالها: ما الذي يُمكننا أن نفعله أكثر لكي تنقرضوا؟ بالتأكيد أنّ فيها مَن يسأل بحنق: ما بال هؤلاء لا يتبخّرون؟ هم ليسوا حكومة، ليسوا حزباً، ليسوا جهة ما، بل «ناس». أفراد يُبادرون. كم يتمنّى رفيقنا «الدكّنجي» أن يُبادر زملاؤه، أصحاب المحال في سائر المناطق، إلى فعل ما فعله: أن يرسموا علم العدو أمام محالهم. خطوة لن تهزم العدو، طبعاً، لكنّها رسالة وعي، إشارة تنبيه، علامة على أنّ هناك مَن لم ينسَ، ويُريد ألا ينسى، وها هو يُناضل على طريقته، بخطوة رمزيّة، ليوصل إلى أجيال خلفه وصية أن: لا تنسوا. ذاك شيء يَجب ألا يُنسى.