تذكّر زيارة وفد من نواب الاشرفية (أنطوان بانو، ​نقولا الصحناوي​ و​عماد واكيم​)، برفقة رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني، الى باريس للاطلاع على عمل محرقة للنفايات، بزيارات قامت بها وفود عدّة سابقاً للغاية نفسها. بداية هذه الزيارات «الرسمية» كانت عام 2011، قبيل اتخاذ مجلس الوزراء آنذاك قراره لأول مرة باعتماد خيار التفكك الحراري. نظّم تلك الزيارة برنامج الامم المتحدة الانمائي لمعاينة محرقة متقدمة في امستردام. وضمّ الوفد اللبناني ممثلين عن لجنة البيئة النيابية ووزارات البيئة والداخلية والبلديات والطاقة والمياه والتنمية الادارية ومجلس الانماء والاعمار وكاتب هذه السطور. اضافة الى زيارة اخرى نظّمتها «مؤسسة فريديريش ايبرت» الالمانية الى برلين في ايار 2016، اثر الازمة التي ضربت لبنان، وضمّت ممثلين عن لجنة البيئة النيابية وجمعيات تعنى بقضايا النفايات وكاتب هذه السطور.التقرير الذي تم اعداده حول الزيارة الاولى (نشر في جريدة «السفير» في 31/5/2011) خلص الى الاستنتاج أن مدينة امستردام تعالج نفاياتها بتقنية عالية جداً... وأيضاً بكلفة عالية جداً لا يمكن للبنان أن يجاريها. علماً أن التقنية العالية لا تعني «صفر مشاكل». إذ شاهد الوفد تلالاً من الرماد أمام المحرقة التي تحرق 4000 طن يومياً. علماً أن الرماد المتطاير الخطر يُشحن ويُطمر في مناجم فحم مقفلة. كما ان ثلثي مساحة المعمل عبارة عن «فلاتر» تحتاج الى صيانة دائمة.
أما التقرير حول زيارة برلين (النص الكامل) الذي يفترض أن تكون لجنة البيئة النيابية قد تسلمته، فيؤكّد أن مشكلة معالجة النفايات ليست تقنية، بل هي في حاجة الى رؤية متكاملة حول كيفية التعاطي مع معطيات اقتصادية واجتماعية وأخلاقية وحضارية وعلمية تراعي خصوصيات كل بلد. ولا يفترض البحث عن تقنيات متقدمة، بقدر البحث عن استراتيجية وهيكلية واضحة تحدد، على فترة متوسطة وبعيدة المدى، الى اين نريد أن نصل في طريقة انتاجنا واستيرادنا واستهلاكنا للسلع التي تتحول الى نفايات، قبل البحث في مصيرها وكيفية معالجتها بعد أن تتراكم.
كما صدر تقرير آخر عن مجلس النواب حول ورشة العمل التي عقدت في 12/4/2017 وأوصت باعتماد استراتيجية تأخذ في الاعتبار الكثير من القضايا، في آخرها التقدم التكنولوجي المحرز في كيفية معالجة النفايات.
بناء على ذلك، ما الذي يمكن أن «يكتشفه» بعض نواب العاصمة في زيارة لمحرقة في اي عاصمة أوروبية أخرى مجدداً؟ بالطبع، سيكتشفون محرقة متقدمة غير متوفرة في دول المنطقة. وبغضّ النظر عن الجوانب الخفية من هذه التكنولوجيا وتأثيراتها، يمكن الجزم ان اكتشاف تكنولوجيا متقدمة ليس سبباً كافياً لاستيرادها. بل ان ما يحدد الخيارات حزمة من الشروط، لن يتم اكتشافها في هذه الزيارة.
مشكلة معالجة النفايات ليست تقنية بل تكمن في الحاجة الى رؤية متكاملة


فقبل تبني أي خيار تقني او استراتيجي وإقرار قانون لإدارة النفايات، كان يفترض المطالبة بتقييم واقع النفايات ودرس كل المعطيات والعوامل المؤثرة في إنتاج النفايات ومعالجتها. ومن هذه المعطيات والعوامل تكوين هذه النفايات وماهيّتها، ومستوى العضوي وغير العضوي (المكوّن العضوي هو السائد في البلدان النامية ومن بينها لبنان حيث 54% من النفايات عضوية فيما قد تقلّ هذه النسب الى النصف تقريباً في البلدان الصناعية)، اضافة الى نسب المواد المكوّنة وتوزيعها وكمياتها والمصادر المنزلية وغير المنزلية والخطرة وغير الخطرة، ودراسة كثافتها ومستوى الرطوبة فيها… والاختلافات في قابلية التحلل وقيمة الطاقة فيها، وحجم السكان بالنسبة الى حجم النفايات المنتجة على مستوى الفرد، ومستوى التمدن، مع درس الوضع الاجتماعي والاقتصادي والمستوى المعيشي... الخ. كما يفترض مراجعة العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية المشجعة او غير المشجعة على الاستهلاك، وربط معدلات إنتاج النفايات بمؤشرات مختلفة مثل الناتج المحلي الإجمالي للفرد ودخله واستهلاكه للطاقة، وإيجاد سياسات ضرائبية مناسبة (تحفيزية وتصحيحية)، ومراجعة الوضع الصناعي والتحويلي وحرية التجارة وتدفق المنتجات من دون ضوابط بيئية (كما هي الحال في لبنان)، وحرية الاعلان عن السلع واحتلال المساحات العامة وتشويهها وخلق حاجات كاذبة تشجع على الاستهلاك وتراكم النفايات من دون ضوابط. وكذلك الأخذ في الاعتبار المناخ وتوزع الفصول ووضع التنوع البيولوجي والجيولوجي ومصادر المياه والتربة، ومراجعة الوضع العلمي والاكاديمي والتخصصي والتقدم التقني الذي يمكن أن يواكب امكانية استيراد تقنيات قد تكون غير ملائمة للبيئة العلمية والتقنية للبلد المتلقي... الخ.
دراسة كل هذه المعطيات بهدوء وروية، مع متخصصين غير مرتبطين بمصالح وشركات ولا يعملون سماسرة للتقنيات، والضغط لايصال وزير بيئة ملمّ في الحكومة العتيدة وعدم الاستسهال في هذا المجال... أوْلى من زيارات مكررة تؤخر ولا تقدم في ايجاد حلول مستدامة وعادلة على مستوى الوطن وعلى مستوى العاصمة، ينتظرها الناس منذ مدة طويلة.