في أسوأ كوابيسها لم تكن إسرائيل طوال تاريخها تتوقع أن يلوح فوق تل أبيب، في يوم من الأيام، سيناريو «عقيدة الضاحية» وتهاوي ناطحات السحاب واستهداف منشآتها الاستراتيجية ومقر قيادة الجيش ووزارة الأمن... بل لم يخطر في مخيلة أحد أن يُسلِّم القادة الإسرائيليون، بالممارسة، بحقيقة أن المسافة الفاصلة عن تحقق هذا السيناريو هو قرار يصدر عن المجلس الوزاري المصغر بشن حرب على لبنان، وهو ما لم يجرؤ على اتخاذه في أكثر المنعطفات مصيرية مرت بها المنطقة (الحرب السورية مثالاً) وكانت تشكل ظرفاً مثالياً لأي عدوان بهذا الحجم وما دونه. وقد يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نجح في أن يحفر بالوعي العام استعراضه على منبر الأمم المتحدة وهو يحمل صورة لما قال إنه مصانع تطوير دقة صواريخ حزب الله بالقرب من مطار بيروت الدولي. لكنه فشل في أن يقنع أحداً بأن هذا الاستعراض قادر على تبديد سيناريو الرعب الذي بات يسكن وجدان كل إسرائيل، قادة وجمهوراً.وسيبقى هذا المشهد يلاحق المراقبين - في كل مناسبة ذات صلة - الذين أسهبوا في محاولة فهم خلفية وأهداف رسائل نتنياهو من على منبر الأمم المتحدة. ومع أن بعض المعلقين في إسرائيل حاول أن يتساوق مع خط المؤسسة الأمنية والسياسية، في التسويق لهذه الخطوة، اختار البعض الآخر تسليط الضوء على مأزق الردع الذي تواجهه إسرائيل وقيادتها. وانضم إلى هؤلاء البروفيسور أوري بار يوسف، المتخصص في قضايا الأمن القومي والاستخبارات والعلاقات الدولية في جامعة حيفا، الذي رأى في مقالة له في صحيفة هآرتس أنه «من الصعب التفكير بأي زعيم آخر في تاريخ إسرائيل اعتقد أنه بمجرد الكلام والصور الملونة، يمكنه أن يُبعد الأخطار الحقيقية عن إسرائيل». لافتاً إلى أن هذا الحكم ينسحب أيضاً على قادة اليمين «مناحيم بيغن تخلّى عن كل سيناء من أجل السلام مع مصر؛ واسحاق شامير بدأ مفاوضات مع الفلسطينيين في عملية مدريد؛ وآرييل شارون خرج من قطاع غزة وتخلى عن المستوطنات اليهودية» فيه.
وتوقف بار يوسف عند المفاعيل المتوقعة لخطوة نتنياهو، بالقول: «حتى وقت قريب، قدّمت إسرائيل سراً معلومات استخبارية حساسة عن إيران ومصانع الصواريخ لحزب الله إلى مختلف الهيئات في جميع أنحاء العالم من أجل تحفيزها على العمل». لكنه لفت إلى أنه «وفقاً لما هو معلوم، فإنها لم تفعل شيئاً». وتساءل عما كان يتوقعه نتنياهو «الذي يؤمن بالتسويق كحل لكل شيء... هل توقع تظاهرات حاشدة في نيويورك وباريس ولندن لدعم مطالبه؟ من الواضح أن الأمر ليس كذلك».
هل توقع نتنياهو تظاهرات حاشدة في نيويورك وباريس ولندن لدعم مطالبه؟


أما بخصوص المأزق الذي تواجهه المؤسسة الإسرائيلية، بكافة عناوينها السياسية والاستخبارية والعسكرية، فقد اعتبر الكاتب المتخصص بشؤون الأمن القومي أنه «من المفترض بنتنياهو أن يعرف أيضاً أنه خلافاً للتهديدات الأمنية التي واجهتها إسرائيل طوال تاريخها، ليس لديها اليوم رد عسكري جيد على تهديد مئات أو آلاف الصواريخ الثقيلة، بعضها دقيق، لدى حزب الله ومُوجّهة ضدها». مشدداً على أنه «لم يسبق أن واجهنا في الماضي مثل هذا التهديد». بل ذهب إلى حد التحذير أنه «من الممكن في الحرب المقبلة، أن المئات من هذه الصواريخ لن تصيب فقط المنشآت الاستراتيجية الإسرائيلية، بل أيضاً الكثير من المباني الشاهقة في تل أبيب». ولفت إلى أن «عقيدة الضاحية» (سياسة التدمير التي نفّذها العدو في الضاحية الجنوبية لبيروت خلال حرب 2006) أعلنتها إسرائيل، لكن حزب الله أيضاً يستطيع تنفيذها، ربما تحت عنوان «عقيدة الكريا» في إشارة إلى مبنى وزارة الأمن (الدفاع) وقيادة الجيش الإسرائيلي.
ولفت بار يوسف إلى أنه «في ضوء التطورات التكنولوجية في العقود الأخيرة فإنه يمكن تحسين دقة الصواريخ بصورة بسيطة نسبياً، والنتيجة العملية هي «توازن رعب» تقليدي: «الضاحية مقابل الكرياه، ومطار الحريري مقابل مطار بن غوريون». وفيما أعرب عن احترامه الكامل لخطاب نتنياهو في الأمم المتحدة، دعاه أيضاً إلى الاستفادة من التجارب التاريخية، وإلى استبدال التهديدات التي يطلقها بوجه إيران وحزب الله، بالبحث عن طرق بديلة، مؤكداً أن رئيس الحكومة «يعلم أن الطريقة التي يعمل بها قد تقودنا إلى كارثة».