العبور على حاجز الجيش اللبناني عن يمين أوتوستراد صور - الناقورة إلى داخل مخيّم الرشيدية للاجئين الفلسطينين جنوب مدينة صور، ليس أمراً صعباً. يقف الجنود بأريحية مقبولة هنا، يستطلعون وجوه الداخلين والخارجين وسياراتهم، والطمأنينة بادية على وجوههم، وكأنهم حفظوا وجوه الأهالي الذين اعتادوا المرور من المخيم وإليه.ومع أن الفلسطينيين في لبنان يتشاركون جلاجلهم والمصير، لكن مخيّم الرشيدية لا يقارن بأيٍّ من مخيمات الشتات الفلسطيني في لبنان، لا عين الحلوة ولا برج البراجنة ولا مخيّمات الشمال. الرشيدية، مع مخيمي البرج الشمالي والبص، «ألطف» بعض الشيء على سكّانهم. الضوء في الرشيدية بين البيوت ليس نادراً، والشوارع على ضيقها، أشرح من تلك الزواريب التي تحكم عين الحلوة ومار الياس وبرج البراجنة.
من حاجز الجيش اللبناني، إلى ساحة المخيّم الرئيسية، بضع شجيرات منثورة هنا وهناك تكسر حدّة الباطون المخفي خلف ألوان البيوت. توصل الدرب من على يسار الساحة الرئيسية، إلى مكتب حركة فتح. رايات صفراء على الجانبين، وصور الراحل ياسر عرفات مرسومة على جدران المكتب، وحارسٌ يتيم يتفيّأ مع بندقيته هرباً من شمس الظهيرة على الساحل والرطوبة اللاذعة.
يكاد مخيّم الرشيدية يغيب عن الإعلام لأشهر. فلا اشتباكات مسلّحة إلّا في ما ندر، ولا مطلوبين خطرين تتردّد أسماؤهم كلّ يوم، حتى الصّراع «الفصائلي» التقليدي للسيطرة على ساحة المخيّمات، تخفت حدّته هنا. وحدها يوميات الفلسطينيين المثقلة بهموم اليوم وهواجس المستقبل صامدة.
عبد الله: نتعاون مع الأجهزة الأمنية، وكل مطلوب لدينا نسلّمه بأسرع وقت ممكن


قبل أسابيع، قام وفد من الجيش اللبناني بجولة استطلاعية في محيط المخيّم، بهدف غير معلن، هو دراسة رفع مستوى الإجراءات الأمنية في محيطه، من نشر أسلاك شائكة وإمكانية إقامة جدار على غرار ذلك الذي طُوّق به عين الحلوة.
بالمناسبة، جدار عين الحلوة هُرّب تهريباً. اتخذ القرار السياسي في الدولة اللبنانية، وهي من المرات النادرة التي يتعامل فيها اللبنانيون كـ«دولة»، ربّما لأن «الآخر» فلسطيني، والمطلوب «خنقه». وقبيل البدء بالبناء وأثناءه، اعترض الفلسطينيون، الفصائل والسفارة، ثمّ انقسموا على الموقف. اللبنانيون كانوا أذكى. اعترضت حركة أمل وحزب الله، فتوقف البناء، ثمّ نسوا الأمر، فصار جزء من الجدار أمراً واقعاً. ثمّ وقعت اشتباكات في المخيّم، أو حروب صغيرة، واختبأ في داخله مطلوبون جدد، لبنانيون هذه المرّة، فبدأ البناء من جديد، على السكت. خفتت الاعتراضات، أصيبت القوى السياسية بـ«الحياء»... ربّما، أو ربّما هي سياسة القضم.
في حالة عين الحلوة، قد يجد الأمنيون مبرّراً يُحرج القوى السياسية، بأن الجدار حاجة أمنية ملحّة: مطلوبون خطرون، أمير لتنظيم «داعش»، أمير لتنظيم «القاعدة»، ملجأ لإرهابيين فارّين من دول المحيط، ومصدر لعمليات إرهابية في الداخل اللبناني، واشتباكات وحروب دائمة تنتقل سريعاً إلى مدينة صيدا تهدّد «سلمها الأهلي» وتقطع طريق الجنوب. إن اعترض حزب الله على الجدار، يقول الشامتون إن المقاومة لا تريد الأمن للبنان، وإن سكت قيل إن حزب الله يشارك في سجن الفلسطينيين خلف جدران كانت إسرائيل سبّاقة إليها في فلسطين المحتلة.
إذا كان الرشيدية باعتراف المعنيين في الجيش والأجهزة الأمنية وجهاز أمن المقاومة، أكثر المخيّمات هدوءاً واستقراراً، فما مبرّر رفع جدار إذاً؟ هل لأن التهمة جاهزة: «مخيّم»؟ تماماً مثل الفلسطيني، يمشي وتهمته معه؟ في الرشيدية إذاً نحو 28 متهماً حتى تثبت براءتهم، ومن الأفضل حفاظاً على الأمن اللبناني أن يُحَضَّر سجن كبير... استباقياً. العصا الأمنية تُرفع في وجه المخيمات بذريعة خطر يشكّله عشرون «إرهابياً» هنا ومطلوبان بجرم إطلاق النار في حفل زفاف هناك. شيطنة اللاجئين لا يمكن فصلها عن السياق السياسي العام، إقليمياً ودولياً. «صفقة القرن» لاحت بشائرها من واشنطن إلى القدس، فمن الذي يصرّ على جعل لبنان عضواً إلزامياً في نادي منفّذيها؟
ما إن يحين موعد انتهاء الدوام المدرسي، حتى يتبعثر الأطفال في طريق العودة إلى بيوتهم. يتجمّعون هنيهة أمام مكتب فتح، يلعبون بقناني المياه، ثمّ يتراكضون هرباً من الكاميرا. في الطابق الأوّل، مكتب العميد توفيق عبد الله قائد الأمن الوطني الفلسطيني في صور. عبد الله، مثل أي فلسطيني في الرشيدية، لا يجد سبباً لإقامة جدار حول مخيّمه. «نتعاون مع الأجهزة الأمنية ومع القوى السياسية، وكل مطلوب لدينا إن وجد نسلّمه بأسرع وقت ممكن. ربّما هي سياسة لبنانية جديدة»، يقول العميد. يصمت لثوانٍ، «بصراحة، الفلسطينيون كفروا بكلّ شيء». بالنسبة إلى عبد الله، الاعتراض الفلسطيني حتى الآن ليس كافياً، «يعني شو فينا نقول؟ هي أرض لبنانية، وإحنا ضيوف عليها، بس لما تحطّ الناس بسجن يعني عم تدفعها نحو المجهول... بعد باقي هالكرامة، كثيرة على الفلسطيني؟». بعد وقت قصير، يحضر عضو قيادة فتح إقليم لبنان اللواء أبو أحمد زيداني إلى المكتب. اللواء أكثر تفاؤلاً من العميد، يقول إن في معلوماته أن الجيش كان يدرس الخطوة ولم يتخّذ قراراً، ويرجّح أن الحوار مع الجيش جعله يعدل عن الخطوة. يعود اللواء إلى حرب تموز. يومها كان المخيّم جزءاً من مسرح الحرب والدعم اللوجستي للمقاومة ولأهالي القرى المحيطة. يوصّف اللواء حادثة حصلت خلال العدوان، حين اعتدى أحد الشبان الفلسطينيين على نازح لبناني إلى المخيّم، فقرّر النازحون اللبنانيون عندها أن يرحلوا عن المخيّم تحت القصف. فما كان من اللواء وفعاليات المخيّم وقادة الفصائل، إلّا أن اجتمعوا بهم في باحة مدرسة في محاولة لإقناعهم بالعدول عن الخطوة. «قلنا لهم، سبعون عاماً حملتونا على أكتافكم، لماذا تحرموننا شرف أن نخدمكم خلال هذا العدوان؟ لا ترحلوا، أنتم في بيوتكم». ومن الحادثة ينطلق اللواء ليشرح علاقة المخيّم بمحيطه. يكفي أن أكثر من 300 فتاة لبنانية من قضاء صور متزوجات بفلسطينيين من الرشيدية.

مصدر أمني: الجيش نشر أسلاكاً حديدية في أماكن محدّدة، والأمور جيدة الآن


على المقلب الآخر، يقول مصدر أمني لبناني إن زيارة الجيش كانت استطلاعية، وإن «الجدار كان فكرة، والأرجح أنها لن تطبّق، الجيش نشر أسلاك حديدية في أماكن محدّدة، والأمور جيدة الآن». ويقول المصدر إن «الجيش يلجأ إلى الإجراءات التي يجدها مناسبة للحفاظ على الأمن اللبناني، لكن مسألة الجدار لا ترتبط فقط بالأمن، المخيّم يتوسّع وحدوده تتوسع لتطاول أرض الدولة والمشاع». لكن ألا توجد سبل أخرى لضبط هذا التوسّع العمراني؟ «نعم يوجد»، يقول المصدر، «علينا البحث مع الإخوة الفلسطينيين عن سبل ضبط التمدد العمراني».



الأميركيون والمخيّمات
قبل مدّة، استطلع فريق عسكري أميركي محيط مخيّم الرشيدية. بالطبع، يربط الفلسطينيون بين الزيارة وما يخطّط له الأميركيون لمخيّمات الشتات من تصفية وإنهاء لدور الأونروا، تمهيداً للقضاء نهائياً على القضية الفلسطينية.
وهذا الربط الفلسطيني منطقي، في ظلّ السياسات الأميركية حيال مسألة فلسطين، والمصير الذي تسبّبه الجماعات الإرهابية المدعومة من أميركا وحلفائها، كلّما حلّت في مخيّم فلسطيني، من نهر البارد إلى عين الحلوة إلى مخيّم اليرموك.
غير أن المصادر اللبنانية، لا تعلّق كثير الاهتمام على الزيارة الأميركية، مؤكّدةً أن هذه الجولة «اعتيادية، ولا علاقة بها بجولة الجيش»، وتؤكد أن الوفود الأميركية دائماً ترغب في تنظيم زيارات لمحيط المخيّمات، «بعضهم يأتي ليسجّل أنه زار أماكن خطرة في لبنان، ليكافأ بعدها من إدارته».