لم «يُعربش» محافظ بيروت، زياد شبيب، إلى قمّة صخرة الروشة يوماً. كذلك لم يفعل رئيس بلديّة بيروت جمال عيتاني. لم يَلمس جلدهما جسد تلك الصخرة يوماً. في المقابل، ثمّة شخص لبناني، منذ أكثر مِن ألفي عام، قضى عمره هناك عند الصخرة، يصعدها مراراً كلّ صيف مذ كان فتى، يسبح مِن «الدالية» مروراً بـ«المغارتين»، ليصل أخيراً إلى ذاك النفق الصغير أسفلها... حيث المياه أبرد. كان هذا الشخص، خلال الأيّام الماضية، غاضباً لمشاهدته صورة الملك السعودي وابنه وليّ العهد معكوسة، بواسطة الإضاءة، على البدن العريض للصخرة. كانت كأنّها، في عينيه، تُغتصب. علم دولة ذاك الملك وابنه عُكِس عليها أيضاً. حصل هذا احتفالاً بمناسبة باليوم الوطني السعودي؟ ما علاقة لبنان بذلك؟ عبثاً يُحكى عن «منطق». شهد الحفل رهط مِن أصحاب الوجوه الناشفة. تلك الوجوه التي تتصنّع التبسّم في حضرة ممثّل السعوديّة. هل أضيء يوماً «برج المملكة» في الرياض بالعلم اللبناني احتفالاً بعيد الاستقلال؟ هذا سؤال له صلة بالمنطق. اتّفقنا هنا على ألّا منطق. نحن في زمن المحافظ، شبيب، صاحب «قفشة العام» الذي أراد، بشيء يفوق السذاجة، أن يُعاقِب كلّ مَن يَرفع علم دولة مُشاركة في «المونديال». كان هذا قبل نحو ثلاثة أشهر فقط. نحن في زمن رئيس البلديّة، عيتاني، الذي يؤكّد أن لا شيء لديه ضدّ أيّ دولة، ولكن هذه السعوديّة حيث «رزقتنا كانت مِن هونيك». هذا رجل صريح في هذه. واضح. منسجم مع نفسه... لكنّه هو هو. عمل سابقاً، لسنوات طوال، مُهندساً استشاريّاً في مملكة النفط. هذا زمن تلك الأصناف مِن المسؤولين عن إدارة الفضاء العام في بيروت. هذه صخرة الروشة التي كانت تُرسم على ورقة العشر ليرات. الصخرة التي تعني، في وعي أجيال مِن لبنانيين وأجانب... كلّ لبنان.مَن كان خلف تلك الفكرة؟ المحافظ ورئيس البلديّة، كلاهما، والأخير يقول لنا: «القرار مشترك، والتنفيذ عند المحافظ، عموماً مش شغلة كبيرة هيدي، يعني كمان الأعلام الإيرانيّة منتشرة بكلّ لبنان». ما علاقة إيران الآن؟ مَن أتى على ذكرها؟ هذا كلام شخص مسؤول! أي نعم مسؤول. عموماً، صخرة الروشة ليست «كلّ مكان» كذلك فإنّها ليست «أيّ مكان». هي رمز. صخرة الحَمَام كما عُرِفت قديماً، أو صخرة العشّاق كما عُرِفت لاحقاً... فضلاً عن أنّها، زوراً، صخرة الانتحار. الانطباع الأخير رسّخه، خيالاً، حوار شوقي متّى ومحمد المولى في فيلم «عودة البطل» عام 1983. اليوم هناك مَن قرّر أن يُدخل صخرة الروشة في دوّامة، لن تتوقّف، لنكون أمام مشهد أخير عنوانه: انتحار صخرة. ماذا لو سعت دولة أخرى، على سبيل الغيرة مثلاً، لإضاءة علمها هناك لاحقاً؟ دعونا مِن إيران. ماذا عن قطر مثلاً؟ هذه دولة عربية وشقيقة وإلخ. ماذا عن مصر؟ بالمناسبة، رئيس بلديّة بيروت مقتنع بأنّ علم السعوديّة أضيء على «قوس النصر» في باريس بألوانه أيضاً. لنخمّن مَن أخبره ذلك: «هذا ما أخبرني إيّاه القائم بالأعمال السعودي في لبنان وليد البخاري. لقد أراني الصورة أيضاً وهي حقيقيّة». لا، ليست حقيقيّة يا ريّس. لقد «ضحك» عليك البخاري. هو يعلم أنّ تلك الصورة، التي روّجها «صبيانه» على أنّها حديثة، وبمناسبة العيد الوطني السعودي، ليست إلا صورة مِن العام الماضي بمناسبة افتتاح بطولة العالم لكرة اليد للرجال في فرنسا. كلّ أعلام الدول المشاركة ظهرت ألوانها مُضاءة. هكذا، إنّهم يُدلّس بعضهم على بعض... «يا عيب الشوم».
تلك صخرة الروشة، التي أمكن ورثة رفيق الحريري أن «يُبهدلوا» صيّادي الدالية قبل سنوات، حرّاس الصخرة، ثم إخراجهم مِن هناك. أبرز أولئك هم مِن آل عيتاني، البيارتة الأقحاح، ومَن هناك لا يعرف محمد عيتاني الذي «شكّ» عن الصخرة بدل محمد المولى في دور «كومبارس» في الفيلم إيّاه. تلك الصخرة لم تكن عنواناً للتفرقة بين اللبنانيين في يوم مِن الأيّام. ذاك الرمل القليل أعلاها تعرفه جيّداً قدما «نسر الجنوب» زكريا عكنان، صاحب القفزة الشهيرة في عرض عام 1994 وما تلاها. ما بين عكنان وعيتاني، وغيرهما مِن مختلف جهات لبنان، صخرة كانت تجمعهم ولهم معها حكايات وأهوال. قُضي على ذاكرتهم سابقاً، فطردوا، تمهيداً لجعل المنطقة ملكاً خاصّاً، ولاحقاً بالاستثمار، فغاب كلّ نشاط تراثي. قُضي على روح المكان. بعد كلّ ذلك، والآن أخيراً، يأتي «صبيان» السعوديّة للعبث بوجدان اللبنانيين عند تلك الصخرة. ما حصل ليس عابراً. هل يُترَك أمر اللعب بالأمن التراثي، أقلّه يعني، لمحافظ ورئيس بلديّة؟ أمَا مِن جهة أعلى يُمكن أن تفرض نظاماً يُبعِد العبث عن أماكن أيقونيّة، بالمعنى الوطني والتاريخي، كصخرة الروشة؟ إن كان رئيس الحكومة «مخطوف اللون»، فماذا عن رئيس الجمهوريّة؟ ماذا عن الآخرين، كلّ الآخرين؟ هذه بيروت، عاصمة الجميع، صح؟
ذات يوم، قبل نحو سبعين عاماً، كتب سعيد تقي الدين عن «شمدص جهجاه». تلك الشخصيّة التي اخترعها، استلهاماً، ليُركّب عليها لاحقاً الكثير مِن نمطيّات السياسيين والمسؤولين. كتب: «لقيت منذ يومين صديقي شمدص جهجاه يركب سيارة رقمها لا يتجاوز عدد أصابع يده، وبرفقته شرطي عتليتي، وقد وقفت السيّارة قريباً مِن الروشة. شمدص، ما غيرو، يركب سيّارة حكوميّة ويُصبح بحاجة إلى شرطي يُرافقه... وهو الذي اعتاد ركوب البغلة ومرافقة المكّارين». حصل ذلك، داخل رأس الكاتب، لكن ليس مِن فراغ، في الروشة تحديداً. يا لنبوءة سعيد تقي الدين.