في الذكرى الثانية عشرة لعدوان تموز، تبدو ورشة البناء الجارية في دردغيا (قضاء صور) وكأنها إعادة إعمار لبيوت تضررت جراء القصف الإسرائيلي. الواقع أن العدو الاسرائيلي مر من هنا قبل عام 2006 بسنوات كثيرة. حينها، ألقى قذائفه على أطراف البلدة. وفي اجتياح عام 1982، تعمّد تدمير عشرات المنازل، من بينها دور ضخمة ذات قيمة معمارية يعود تاريخ بنائها عقوداً في الزمن. الحرمان والفقر مرّا، أيضاً، على أهالي البلدة، قبل العدو الاسرائيلي بكثير. هجّراهم بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر وألقيا بهم في أصقاع الأرض. هاجر هؤلاء وتركوا خلفهم بيوتاً أقفلت على ذكريات وحكايا الإنتماء الى هذه الأرض. هذا الإنتماء، تحديداً، هو ما أعاد الأشقاء، سمعان ومارون وجورج سمعان إلى مسقط رأسهم لترميم منزل العائلة وقضاء أيام العطل والأعياد فيه. لم يكتفوا ببث الروح في إرث أجدادهم.
(تصوير علي حشيشو)

أيقنوا بأن الروح يجب أن تدبّ في جسد دردغيا كلها لأن «الجنة من دون ناس لا تداس». أطلقوا من خلال «مؤسسة مارون سمعان الخيرية» مشروع ترميم البيوت المهجورة وتجهيزها بالبنى التحتية لتصبح صالحة للسكن. من يرغب بترميم منزله، تتحمل المؤسسة نفقات الورشة في مقابل تعهد أصحاب المنزل المرمّم بعدم بيعه. وبين البيت والبيت، رُممت الأزقة والممرات وانتعشت «الحاكورات» بالسقاية والزرع والزهر.
يقول سمعان سمعان إن فكرة ترميم دردغيا خطرت على بال الأشقاء الثلاثة قبل نحو عشر سنوات: «أردنا أن نساعد الضيعة كلها ونساعد أبناءها البعيدين للعودة إليها». يستدرك المهندس المغترب في دولة قطر بأن «عملية إعادة الناس ليست سهلة. الأمر مرتبط بالوضع الإقتصادي. قررنا أن نجهّز البيوت للسكن كخطوة أولى تؤدي في مراحل لاحقة إلى تحريك الأنشطة الإقتصادية والتنمية الريفية لصالح المقيمين بشكل دائم».
بحسب سمعان، من أصل 60 بيتاً قديماً، وافق أصحاب 45 بيتاً على الترميم. مشروع سار على أكثر من صعيد ميداني وقانوني. بداية، أجري مسح جوي طوبوغرافي للبلدة قبل أن تستحصل المؤسسة على موافقات رسمية من أصحاب البيوت وتوقيعهم على تعهدات بعدم بيعها بعد ترميمها. بالتزامن، تولت البلدية الإستحصال من وزارة الداخلية والبلديات على ترخيص جماعي لترميم البيوت.

(تصوير علي حشيشو)

حتى الآن، خضع 30 بيتاً لاعادة بناء جزئي وترميم وطلاء ورصف بلاط وتركيب نوافذ وأبواب وتنفيذ تمديدات الكهرباء والماء. ومن المقرر أن يخضع 15 منزلاً للورشة ذاتها في العامين المقبلين. «خرب» أخرى كثيرة لا تصلح للترميم، منها ما دمره القصف الإسرائيلي ومنها ما أكله الإهمال، تحولت إلى حدائق وزُودت بمقاعد تستعيد الساحات التي كان يجتمع فيها أهل الضيعة.
جديرة بيوت دردغيا بالترميم. إذ يعود تاريخ تأسيس الكتلة الحجرية المرتفعة على تلة إلى حوالي 300 سنة. خصائصها العمرانية تؤهلها لكي تستثمر في إطار السياحة الريفية والتراثية التي انتشرت بشكل واسع في الأطراف. إذ إن الدردغيين كانوا يمتهنون البناء وقلع الأحجار. الحجارة البيضاء الكلسية التي بنيت بها البيوت الصغيرة تعكس تواضع حال معظم العائلات. لكن بعضها يضم أشكالاً فنية عمرانية من العقد والقناطر والطبقات المتعددة والغرف الواسعة.

(تصوير علي حشيشو)

أبرزها منزل المختار خليل إبراهيم البدوي الذي شيد نهاية القرن التاسع عشر. يضم في الطبقة العلوية غرفاً للنوم وفي الطبقة السفلية «بيت النسوان» (الغرفة التي تجلس فيها النسوة لاعداد الطعام) والمضافة. أما خارجه، فهناك غرفة الإسطبل وحظيرة المواشي و«الحاصل»، أي مستودع محاصيل الزرع.
يؤمن سمعان بأن المشروع سيشجع عدداً كبيراً من أبناء دردغيا على العودة إليها. الأزمات الإقتصادية في بلدان الإغتراب وغلاء المعيشة في بيروت والتلوث والزحام والضجيج «أسباب تحفز كثيرين للعودة الى الضيعة، على الأقل كبار السن». هذه العودة المتوقعة «تخلق دورة اقتصادية متكاملة... من دكان السمانة إلى الصيدلية ومحل الألبسة».
من يرغب بترميم منزله تتحمل المؤسسة نفقات ذلك في مقابل تعهده بعدم البيع

يلفت سمعان الى أن المشروع يفتح آفاقاً كبيرة أمام أهالي الضيعة، إذ أن بعض البيوت تصلح لتتحول إلى نزل لاستقبال الضيوف وهواة السياحة الريفية، وبعضها الآخر يصلح أن يتحوّل مطاعم للأكلات التراثية ومحال للمونة البلدية.
قبل البيوت، رممت المؤسسة كنيسة دردغيا وجامعها، وشيّدت قاعة المطران جورج حداد وجهّزت مقر البلدية.



قرية المهاجرين والمهجّرين... وطلائع العودة
قبل 300 عام، تأسست البلدة الحالية التي يعتقد أنها تقوم فوق قرية بيزنطية على أيدي عائلتي رعد وخوري اللتين قدمتا من سوريا. سكنها أحد الكهنة الذي زوّج بناته السبع لشبان من البلدة، فتكاثر المسيحيون فيها. بدءاً من القرن التاسع عشر، بدأت هجرة أهالي البلدة الى ما خلف البحار، قبل أن تفرغ تماماً بعد اندلاع الحرب الأهلية. عام 1989، وتحديداً خلال حرب الإلغاء بين الجيش اللبناني بقيادة العماد ميشال عون آنذاك والقوات اللبنانية، بدأ البعض بالعودة تدريجاً إلى دردغيا. حالياً، يقيم فيها بشكل دائم 53 عائلة من أصل 900 نسمة مسجلين في لوائح الشطب. الإخوة سمعان من الذين نزحوا باكراً إلى بيروت قبل أن يهاجروا على غرار نصف أبناء البلدة ممن برز كثر منهم في بلدان الإغتراب، مثل وزير الطاقة الأميركي السابق في عهد الرئيس جورج بوش، سبنسر أبراهام رزق.

(تصوير علي حشيشو)

كثيرون لم يلتفتوا خلفهم. وحدهم الاخوة سمعان (سمعان ــــ مهندس في قطر، جورج ــــ رئيس تحرير جريدة «الحياة» سابقاً مقيم في لندن، ومارون ــــ مهندس ورجل أعمال أقام في الولايات المتحدة) أبقوا على علاقة وثيقة بقريتهم الجنوبية. عام 2011، أسس الراحل مارون (توفي عام 2017)، صاحب شركة «بتروفاك» العالمية المتخصصة في قطاع النفط والغاز، المؤسسة الخيرية التي حملت اسمه، ونظّمت (ولا تزال) تقديمات العائلة في التعليم والرعاية الصحية والدعم الإجتماعي لأبناء البلدة، ولجمعيات خيرية من مختلف المناطق. كما أسست منحاً دراسية للطلاب وزمالات الدكتوراه والبحوث المبتكرة. قبيل وفاته، سُجّل اسم مارون كمانح أكبر تبرّع حصلت عليه الجامعة الأميركية في بيروت في تاريخها لتطوير كلية الهندسة التي تحمل اليوم اسمه، (قُدرت المنحة التي لم تُعلَن قيمتها بنحو 100 مليون دولار). كما موّل بـ 10 ملايين دولار بناء «مركز طانيوس وثريا سمعان» (والدا الأخوة سمعان) لجراحات اليوم الواحد في مستشفى الجامعة الأميركية. قبل ذلك، موّل بناء منشآت كلية الهندسة الكيميائية في جامعة البلمند (شمال لبنان) عام 2015، ومشاريع اجتماعية في الجنوب وبقية المناطق.