ليس أمراً عابراً أن يُصارح رئيس أركان جيش العدو غادي أيزنكوت الجمهور الاسرائيلي، عشية مناسبة رأس السنة العبرية، بأن «الانتصار في الحرب سيأتي فقط عبر مناورة القوات البرية التي ستحتل الأرض وتهزم العدو» (مقابلة مع إذاعة الجيش وغيرها من وسائل الاعلام الاسرائيلية). وهو موقف يتضمن أكثر من رسالة للداخل والخارج، والأهم أنه يعكس مجموعة حقائق أسست لهذا الإقرار، وحضرت بقوة في حسابات وتقديرات المؤسسة العسكرية الاسرائيلية.ينطوي كلام ايزنكوت، وقبل أشهر من تقاعده، على نوعين من الإقرار: الاول أن هزيمة حزب الله، باعتباره بحسب تحديد الجيش وأيزنكوت نفسه التهديد المباشر الاكبر على الامن القومي الاسرائيلي، لن تتحقق من خلال سلاح الجو والنيران عن بعد. والثاني أن الخيار الوحيد يكمن في الاجتياح البري...
يأتي هذا الاقرار الرسمي بفشل الخيار الجوي والنيران عن بُعد، بعد 12 عاماً (منذ حرب عام 2006) من ورش التطوير وبناء الجاهزية، وتضاعف القدرات النارية الدقيقة وإجراء المناورات تلو المناورات. ويُعبِّر عن مفهوم تأسيسي يسكن صناع القرار السياسي والامني، وتترتب عليه تداعيات تتصل بطبيعة الخيارات التي توصي بها المؤسسة العسكرية أمام القيادة السياسية.
يعود هذا الموقف الذي يعكس توجه المؤسسة العسكرية، في جزء أساسي منه، الى ماهية القتال اللاتماثلي، الذي «بناه وطوَّره حزب الله في الحلقة الأولى حول اسرائيل»، كما أقرّ بذلك ايضاً ايزنكوت خلال كلمة له في مؤتمر هرتسيليا (حزيران 2017)، مضيفاً أن «الطريقة التي اختارها حزب الله لمواجهة عدم التماثل مع الجيش الاسرائيلي، هي تحويل الجبهة الداخلية الى ساحة عمليات مركزية. ومن أجل ذلك بنى قدرات صاروخية مشكلة من عشرات الآلاف من الصواريخ».
ويكشف هذا الإقرار ايضاً عن خلفية امتناع العدو عن محاولة انتهاج خيارات عملياتية بديلة عن خيار التوغل البري للضغط على لبنان، من قبيل فرض حصار جوي وبحري على لبنان، تحت نفس الشعار الذي يرفعه لحصار غزة، ومنع مراكمة القدرات العسكرية والصاروخية، وهو الذي يعلن على الدوام أن قدرات حزب الله تشكل التهديد المركزي على الجبهة الداخلية الاسرائيلية. ويكشف ايضاً عن خلفية امتناعه عن المغامرة بشن عدوان واسع على لبنان، مشابه لما يفعله التحالف السعودي الاميركي مع الشعب اليمني.
وما انطوى عليه كلام ايزنكوت ضمناً، فصَّله أكثر من مسؤول اسرائيلي، من ضمنهم وزير الامن الاسرائيلي أفيغدور ليبرمان، الذي قال في «المؤتمر الاقتصادي القومي، الذي أقامته مجلة «كلكليست» الاقتصادية (5/9/208): «يجب أن نفهم أنه في الشرق الأوسط كان هناك تغييران استراتيجيان حقيقيان: أولاً، أعداؤنا امتلكوا صواريخ دقيقة، والأمر الثاني هو أن الجبهة الداخلية تحوّلت إلى الجبهة الأساس في الحرب المقبلة، فإذا ما حارب الجنود في حرب يوم الغفران (حرب 1973) على الجبهة، وهنا في تل أبيب جلس الناس مع قهوة وصحيفة... الآن كل شيء تغير». وذهب الى ما هو أبعد بالقول إنه «في السنوات الثلاث الاخيرة قفزت التهديدات (على اسرائيل) أربع درجات».
أما حديث ايزنكوت عن الحسم من خلال المناورة البرية، فلا يعني أن اسرائيل قررت أو على وشك، أو أنها على استعداد لخوض هذه المغامرة، ولكن حاول أن يحذف من أذهان الجمهور امكانية الرهان على الخيار الجوي لتحقيق الحسم، وإنْ بعد التطور الهائل الذي شهدته القدرات العسكرية الاسرائيلية. وأكثر من ذلك، فإن أداء اسرائيل العملياتي يكشف إدراكها أن التطور الذي شهدته صواريخ حزب الله (ضد عمق الاراضي الفلسطينية المحتلة)، يَشمل، بالدرجة الاولى، قدرات عسكرية ودفاعية متطورة تجعل أي غزو بري واسع أكثر من مُكلف، بل متعذر ، وصولاً الى تطوير قدرات هجومية (نموذج الجدار الذي يقيمه جيش العدو على طول الحدود اللبنانية دليل على خشيته من هذه القدرات). في المقابل، ما يميز انتصارات المقاومة في لبنان أنها تراكمت على أنقاض ما كان يفترض أنه حسم عسكري نجح في تحقيقه جيش العدو خلال اجتياح عام 1982.