بين التشديد المتواصل على سلامة الليرة اللبنانية، وما يحصل مع المصارف اللبنانية وشبكات الاحتيال، وبين الكلام عن مستقبل مصرفين محددين في ظل التجاذب السياسي الحاصل، يبدو المشهد اللبناني أخطر مما يطرحه واقع التأليف الحكومي. وكلما ازدادت التطمينات عن استقرار الوضعين المالي والأمني، تضاعفت المخاطر، لأن أي استقرار لا يحتاج الى هذا الكم من الإثباتات والتصريحات.ففي ظل النفاق الذي يحكم التعامل مع ملفات النفايات ونتائجها الصحية الكارثية والكهرباء وشح المياه، والتبريرات الممجوجة لأزمات السير المتفاقمة من بيروت الى جونية، مروراً بجسر جل الديب المعلق في الهواء والسمسرات الطائلة التي أصبحت متداولة، ومن بيروت الى الجبل والبقاع، وحوادث السير القاتلة والغياب المريع لعناصر مفارز السير، وكأنهم في مرحلة تصريف أعمال أو إجازة مفتوحة، كما حال وزير الداخلية، لا يظهر أن هناك من يرغب في أن تقلع الحكومة وأن تعالج واحداً من هذه الملفات.
بين عمليات الانتحار اليومية اللافتة للإنتباه في مختلف المناطق، وأزمات المستشفيات والضمان والمدارس والمعلمين والأهالي التي ستطل مجدداً في أسابيع قليلة، لا يمكن القول إن القائمين على المشاورات الحكومية على دراية بأن انهيار البلد بات أمراً واقعاً.
هذه المشاورات تتم في ظل تداخل العوامل الدولية والإقليمية والمحلية، لكن أسلوب معالجة الأزمة الحكومية يظهر وكأن من يقومون بها يتمتعون بترف الانتظار، فلا يخشون ارتداداً قاسياً لكل هذه الأزمات ولا يهابون تفاقم الوضع الاقتصادي والمالي، علماً بأن أفراد الطبقة السياسية من قيادات حديثة النعمة ونواب جدد، ينتمون الى فئة رجال الأعمال والمستثمرين الذي يعرفون تماماً عمق هذه الأزمة وخطورة ارتداداتها.
يمكن العودة الى تصريحات قادة الكتل السياسية نفسها إبان المرحلة التي سبقت تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام وتصريحات قادتها، حول مخاطر تأخير الحكومة، والشروط الموضوعة لحل أزمة المراوحة، لمعرفة أن ما يحيط بعملية التأليف من قنابل موقوتة هو نفسه ما حصل سابقاً، وأن عملية التجاذب حول الحقائب ما هي إلا واجهة لما هو أعمق. حينها، لم يصدر قرار التشكيل، إقليمياً ودولياً، إلا بعد أكثر من عشرة أشهر من المماحكات التي زادت من الأزمات اليومية من دون أي محاولة لمعالجتها. في تلك المرحلة، كان التيار الوطني الحر بقيادة العماد ميشال عون يدفع تدريجاً الى تأمين حصة التيار في شكل ثابت، ولتحصيل حقيبة سيادية فيها، لأن الجميع كان يعلم أن لا انتخابات رئاسية في المدى المنظور وأن التيار يحتاج الى البقاء كفريق أساسي في حكومة ستكون مهمتها إدارة الفراغ الرئاسي.
كلما ازدادت التطمينات بشأن استقرار الوضعين المالي والأمني، تضاعفت المخاطر


من الظلم لأي كان، وفي مقدمهم رئيس الجمهورية، أن يقال إن الحكومة العتيدة هي حكومة الانتخابات الرئاسية المقبلة والاستحقاق الرئاسي. لأن هذه الحكومة يفترض أن تعيش أربعة أعوام كما حال ولاية رئيس الجمهورية. لكن المشكلة أن المفاوضين، على رأسهم التيار الوطني، يتعاملون مع الحكومة كأنها حكومة النصف الأخير من الولاية، لا النصف الأول منها. على هذا الأساس، يتم التشدد في مقاربة شروط التأليف لوضع أسس العهد الحالي وما بعده، وترتسم المطالبات المبالغ فيها. وعلى هذا الأساس، يتم تجاهل ما يجري في سوريا والعراق والمحطة الإيرانية الفاصلة مع واشنطن، وكل ما تسعى دول الخليج وإيران الى فرضه لبنانياً. كذلك تجري التعمية عن الوضع المصرفي والخضات المالية وملف الإسكان المليء بالعيوب والشوائب، وعن ملفات الفساد التي لا تحصى، ويدور بدلاً منها كلام كبير وترويج إعلامي وسياسي للازدهار المالي والاقتصادي والاستقرار بكل معاييره.
ثمة مصرفيون واقتصاديون يتحدثون بجدية ومن دون تبشير سياسي لمصلحة أي طرف أو الدخول في سجالات أرقام وأرقام مضادة، عن خطورة الوضع المالي والاقتصادي، حتى من دون توقع ما يقبل عليه لبنان في ظل أي تضييق أو حصار وعقوبات عليه أو على أي طرف فيه.
وفق ذلك، يمكن التواضع قليلاً والعودة الى واقع الوضع اللبناني على حقيقته من دون مواربة، لأن الترويج لصورة الازدهار في وقت الانهيار لا يصب في مصلحة أي طرف. هناك حقائق مرة، يضعها خبراء جديون على طاولة البحث السياسي، تفترض مسارعةً لتذليل العقبات لتأليف حكومة جديدة، علماً بأن لا أحد يتوهم أن الحكومة العتيدة، وقد شهدنا مثيلات لها من دون طائل وآخرها الحالية، ستجترح المعجزات. لكنها على الأقل ستؤمن بعضاً من الشكل المفترض لهيكل الدولة والدخول الجدي في معالجة الأزمات الحياتية. أما المكابرة المستمرة تحت ججج واهية، والترويج لصورة غير حقيقية، فلا يمكن أن تنقذ الوضع الداخلي من الاهتراء. فشركات الإعلان لم تصنع يوماً بلداً، ولن تصنع بالتأكيد حكومة أو رئيس جمهورية.