العامل الرئيسي لإنجاح أي تحالف أو تفاهم ينطلق من الشارع. المدرسة. الجامعات. النقابات، وصولاً الى الانتخابات النيابية وأروقة البرلمان: تجربة التيار الوطني الحر وحزب الله خير دليل على ذلك. أما إعلان نيات التيار والقوات اللبنانية، الذي دُعّمَ باتفاق معراب، فقد ولد ميتاً لأن أحداً من الطرفين لم يبذل جهداً لتحويله حلفاً شاملاً في شتى المجالات، بل استخدماه للوصول الى هدفيهما، قبل أن يفقد وظيفته، فيصبح مجرد ورقة بالية غير ملزمة حتى للعرّابين ــــ الشاهدين.لم يخرج إعلان النيات بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية يوماً من الأوراق التي كتب عليها. ثلاث سنوات مرّت، لا علاقة الحزبين توطدت، ولا جمهورهما كان بمثابة سمن على عسل. وإذا كان لا بدّ من تقويم «الإنجاز التاريخي» الذي يتغنى به «العرابان»: وزير الإعلام ملحم رياشي، والنائب إبراهيم كنعان، يصح القول إن الإعلان ليس سوى صفّ كلمات. فقد ثبت خلال السنوات الثلاث الماضية، أن الجمهور في مكان و«المصالحة المسيحية» في مكان آخر. وتبيّن أيضاً أن الاستطلاعات التي تظهر أن الأكثرية المسيحية، بنسبة تتعدى الثمانين في المئة تدعم توافق الحزبين ليست سوى مبالغة تسويقية لجني ثمارها سياسياً وحكومياً ورئاسياً.

مار مخايل vs اتفاق معراب
شكلت الانتخابات النيابية الماضية ميداناً لجسّ نبض الشارع المسيحي، الذي أظهر لامبالاته تجاه «عرابَي» الاتفاق أولاً، ومن ورائهما التيار العوني وحزب القوات. لم يعلُ صوت واحد يطالب الطرفين بالتحالف على سبيل المثال، ولا امتنع جزء كبير عن الاقتراع احتجاجاً على إخلالهما باتفاقهما. الميدان الأصغر لقياس لهفة الناخبين على إنجازات الحزبين، يتمثل بعدد الأصوات التفضيلية التي نالها الركن الأساسي في علاقة رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس التيار جبران باسيل برئيس القوات سمير جعجع، أي النائب إبراهيم كنعان. النائب المتني الذي اعتاد في الانتخابات السابقة، أن يحل أول بين كل النواب العونيين والخصوم في المتن، حلّ هذه المرة في المرتبة السادسة. أين التأثير الإيجابي للمصالحة وإعلان النيات، ثم اتفاق معراب إذاً؟
أبعد من ذلك، يذهب البعض إلى التأكيد أن التفاهم واتفاق معراب ولدا ميتين خلافاً لوثيقة تفاهم التيار مع حزب الله. هذه الوثيقة أولاً وقعها قائدان بكل معنى الكلمة، أولهما هو السيد حسن نصر الله، وثانيهما العماد ميشال عون. بعد توقيعها في كنيسة مار مخايل، سرعان، ما استتبعت بسلسلة خطوات على الأرض لتدعيمها: جولة للحزبين على الهيئات الحزبية المناطقية، اجتماعات قطاعية (طلاب ومهندسون ومحامون إلخ...)، التحالف الانتخابي والحكومي الدائم بينهما، حلّ الخلافات السياسية في اللحظة نفسها أو من وراء الكواليس (سابقاً بين السيد حسن نصر الله والعماد عون، وأخيراً بين نصر الله ورئيس التيار جبران باسيل) من دون أن تسرب ولو كلمة واحدة الى الإعلام.
في المقابل، بقي تفاهم القوات والتيار منذ اللحظة الأولى أسير جدران الرابية ومعراب، من دون أن يشمل القاعدة، لا في الهيئات المناطقية ولا في المدارس أو الجامعات أو النقابات، ولا ينسحب على الانتخابات النيابية أو أعمال مجلس الوزراء. هنا الفرق كله، إذ يكشف ذلك نيات الحزبين المبيّتة بإفشال التفاهم وإبقاء الأمور على حالها، بعكس ما حصل غداة تفاهم مار مخايل. واللافت للانتباه، أن التيار الحر والقوات لطالما كانا يؤججان الخلافات عندما تقع بينهما بتصريحات نارية لا يمكن أن يتبادلها عادة من وقّع نصف تفاهم، فكيف مع تفاهمين (إعلان النيات وتفاهم معراب)؟
ثمة من يرى أن وثيقة معراب أتت بنتائجها المرجوة بتسهيل وصول عون الى سدة الرئاسة الأولى، وبنجاح جعجع في حرب إلغاء حزب الكتائب، ومنع وصول سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية. تمكنا من تحقيق ما يريدان، فجاء اتفاق معراب الشكلي ملزماً للطرفين: حوّل جعجع «مصيبة» وصول عون الحتمية الى القصر الجمهوري الى فوز بادعائه «صناعة الرئيس»، ثم تبييض سجله وفرض منطق المحاصصة مع التيار. فيما استخدمه التيار لضمان فوز عون إلى الرئاسة، قبل أن «يكتشف» لاحقاً أنه يعزز أرباح القوات في الشارع المسيحي على حسابه.

الانقلاب على التفاهم
من جهة أخرى، كان لا بدّ لترسّبات الأحقاد الماضية من أن تفضح الطرفين، وخصوصاً أنها أعمق من أن تدفن لمدة طويلة. ما هي إلا أيام قليلة حتى داس باسيل وجعجع على ورقة الاتفاق البالية لأن إفشالها هو الشرط الرئيسي لتحقيق مكتسبات شعبية والإمساك بالبلد في مرحلة «ما بعد عون». وهو ما أكده باسيل بتكراره في أكثر من مناسبة «لازمة» أن الاتفاق لا يلغي أحداً، وسعيه سراً وعلانية الى تفادي عزل الكتائب. وعلى سبيل المثال، قبيل انتخاب عون رئيساً، وصلت الرسالة الأولى الى الصيفي عبر النائب الياس بو صعب وفحواها، «اعطونا أصواتكم لنتحالف سوية في ما بعد على قاعدة رفضنا للثنائية الإلغائية». تكرر الأمر عند تشكيل حكومة العهد الأولى حين جهدت القوات لإحراج الكتائب وإخراجها من الحكومة بمساعدة سعد الحريري عبر اختزال تمثيل الصيفي بوزير دولة؛ في الوقت الذي كان فيه التيار الوطني الحر يحذّر النائب سامي الجميل مما يحضّر له. النموذج الثالث هو ما حصل قبيل الانتخابات من خلال زيارات عونية متكررة لصياغة تحالف ما، وهي مبادرة قابلتها الكتائب ببرودة ظناً منها أن «المعارضة ربيحة أكثر». أما النموذج الرابع، فهو ما حصل بعد قرار سامي الجميل عدم الطعن بمرسوم التجنيس، فكان رد التيار الحر على «التحية» بأنه مستعد لتذليل العقبات أمام دخول الكتائب الى الحكومة، «شرط تخلي سامي الجميل عن دور الموالي ــــ المعارض».
يؤجج التيار والقوات الخلافات، ثم يجهدان لتحجيم إنجازات أحدهما الآخر


على المقلب القواتي، اتضحت الصورة عند العونيين منذ البداية: «حب وغرام» لزوم «النقل المباشر». مساع متواصلة «لتشويه صورة التيار وعرقلة مشاريعه وإفشال عهد ميشال عون تحت ألف حجة». أول الغيث، شن حملة شرسة على وزراء التيار، تبعها انقلاب على حكومة عون الأولى والعمل لإسقاطها، فانتخابات نيابية شعارها مكافحة فساد التيار، ثم حملة أخرى لتقاسم السلطة معه وفضح لاتفاق معراب السرّي الذي يدين القوات بالدرجة الأولى ويكشف هرولتها للاستئثار بالسلطة، ضاربة شعاراتها: النظافة والكفاءة والمحاسبة.

«ثقل التاريخ»
هكذا، حررت القوات جبران باسيل من عبء الاتفاق، لتعود قواعد الحزبين «المكبوتة» الى عادتها القديمة التي لم تتركها أصلاً حتى في عز شهر العسل العوني القواتي.
التفاهم انتهى، ذلك أكيد، برغم إصرار عرّابيه كنعان ورياشي على استمراريته. يردد الأخيران وراء «قيصر» في مسرحية «نزل السرور»: «صمود يا قيصر... عرّم يا قيصر... دخول عالتاريخ يا قيصر». إلا أن الواقع يدحض أحلامهما. ثمة من يكرر أن التاريخ لا يموت وهو أساس نجاح أي علاقة؛ والتجربة تقول إن ابن المؤسسة العسكرية وقائدها في وقت من الأوقات لا يمكن أن يأمن يوماً لمن كان عدوه ورئيس الميليشيا التي قاتلت جيشه. أضف إلى ذلك، أن قضية القوات الرئيسية تناقض المبادئ التي قام عليها التيار، فيما عمود تفاهم حزب الله والتيار الوطني الحر حمل عناوين مضادة كلياً لاتفاق معراب، وأبرزها «رفض العزل»، فضلاً عن سعي الطرفين إلى تطبيقه باقتناع تام، فانسحب بسهولة على قواعدهما، برغم مشارب الرجلين المختلفة تاريخياً. القناعة هذه حملت عون على التمسك بالتفاهم والدفاع عن شرعية سلاح المقاومة، برغم المغريات الثمينة التي وضعها المجتمع الدولي وأميركا بمتناوله مقابل انقلابه على حزب الله؛ وأبرزها إغراء رئاسة الجمهورية.