*خلال مؤتمر الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي عُقد عام 1984، كان اللقاء الأول مع علي قانصو. عرفته رجلاً في منتصف الثلاثينيات، لفتني بجسده النحيل وصوته الجهوري. كان «مؤتمر بولونيا»، ذاك العام، تحت عنوان «المقاومة قدرٌ لا خيار»، وتملّكني شعورٌ بأنّ قانصو يملك القدرة على الجدل والصراع الفكري.
على مرّ السنوات، كان علي قانصو مثالاً للمُثقف الشمولي، الذي يملك القدرة على المواءمة بين ثقافة العقيدة وثقافة الحياة. بهذا المعنى، ومن خلال واقعيته السياسية، أظهر نوعاً من البراعة، يحتاج إليها كثير من العقائديين ممّن يتحولون إلى أسرى العقيدة والدوغماتية. عكس هؤلاء، كان الرفيق علي قانصو، مُحاولاً دائماً تقليص الفارق مع النظرية المُمارَسة، عبر طرح المسائل بطريقة واقعية.
ترافقنا معاً، وصنعنا وحدة الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1998. أذكره مُحاوراً جيداً. واكتشفت فيه أيضاً، إيجابيته في الحياة. فعلى الرغم من قتامة الحاضر وإحباطاته، كان قانصو دوماً مُتطلعاً إلى المستقبل، حزبياً ولبنانياً وقومياً. وهو بذلك، يُشبه أي نهضوي آمن بالتنوير سبيلاً. صحيح أنّ واقع الأمة كان يُحزنه أحياناً، لكنّ ذلك لم يدفعه مرّة إلى اليأس. هذه كانت ميزة مُهمة عند علي قانصو، نتذكر إضافةً إليها، يوم اهتزت الأرض تحت أقدامنا مرّات عدّة، بفعل ما تعاقب علينا من أعاصير ومشاكل الأمة والحزب، كان علي من ضمن المجموعة التي ثبتت داخل «القومي»، إيماناً منه بتبنّي هذا الحلم. لم يكن يتعب، بل يُصرّ على تحقيق الحلم.
بعض القوميين، كانوا يعتقدون أنّ لدى علي قانصو القدرة على فهم كلّ ما هو عصيّ، وإمكانية تذليل العقبات التي لا حلّ لها. انطلاقاً من هنا، انتخب رئيساً للحزب في الأعوام 1996 و2005 و2016. ولكنّني أعترف بأنّني تباينت معه، في أكثر من مرّة وخلال أكثر من مؤتمر حزبي، حول طريقة إدارته كرئيس للحزب. على الرغم من ذلك، لم ينقطع التواصل الثنائي يوماً، لأنّ سلطان المؤسسة هو الضامن الحقيقي لعلاقاتنا الرفاقية. خَلَفني علي قانصو في رئاسة الحزب القومي، وصحيحٌ أنّني كنت أختلف معه حول مسائل عدّة، لكنّه لم يكن يحمل في باطنه حقداً أو ضغينة. كنّا نختلف، لنعود ونتحاور ونجلس معاً على طاولة المجلس الأعلى نفسها. لم يعرف الكيد، بل امتلك طيبة أهل الجنوب.
أما علي قانصو الوزير، فأعترف أيضاً بأنّه كان المُدافع الأقوى والأشرس عن المقاومة، خلال كلّ الحكومات التي مثّل فيها الحزب القومي. لم يحد عن خطّ المقاومة الوطنية، ليس لأنّه وزيراً من الطائفة الشيعية يُدافع عن المقاومة الإسلامية، بل بوصفه ابن الحزب الذي أطلق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي من بيروت في عام 1982. كذلك الأمر في ما يتعلّق بالمسائل الاجتماعية داخل مجلس الوزراء، كان علي إلى جانب القضايا التي تعني الفئات الشعبية والمُهمشين والعُمال، مُتبنياً للمطالب الشعبية.
أُصيب علي بالمرض، من دون أن يتحدّث مع أحد عن الموضوع. أكمل حياته بشكل طبيعي، مُمارساً دوره الحزبي والحكومي، كأنّه يُصرّ على استكمال الحُلم نحو مُستقبل حزبي ووطني قومي أفضل. ولكني شعرت بتعبه خلال آخر جلسةٍ للمجلس الأعلى للحزب، جمعتنا معاً. وكأنّه قرّر أن يجمع عُمره ويمشي بصمت نحو نومته الأخيرة. علي قانصو، رجلٌ متواضع وطيّب ونزيه. لم يخسره الحزب القومي فقط كواحد من قادته، بل السياسة في لبنان خسرت أيضاً شخصاً مُهماً، في هذا الزمن الذي قلّ فيه رجال السياسة.
*الرئيس السابق للحزب السوري القومي الاجتماعي

قانصو إلى مثواه الأخير
شُيّع، أمس، الوزير الراحل علي قانصو، بمأتم حزبي وشعبي في بلدته الدوير (النبطية). وكان قانصو قد توفي أول من أمس، بعد صراع طويل مع مرض عضال. وتولّى مسؤوليات عدّة داخل الحزب السوري القومي الاجتماعي: عميداً للداخلية، عميداً للتربية والشباب، ناموساً لمجلس العمد ورئيساً للمكتب السياسي المركزي، ورئيساً للحزب في الأعوام 1996 و2005 و2016. كما أنّه عُيّن ثلاث مرات وزيراً عن الحزب القومي، آخرها وزير دولة لشؤون مجلس النواب في الحكومة الحالية.