القلق الذي يعتري وكالة التصنيف الدولية «موديز» يكمن في ميزان المدفوعات. مصدر القلق فيه مرتبط بمؤشّر تدفق رؤوس الأموال إلى لبنان ونموّ الودائع. أهمية هذا المؤشّر أنه يبرز قدرة لبنان على تمويل دينه العام المتنامي الذي بلغ 142 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017 ويتوقع أن يواصل ارتفاعه.هذا القلق يفسّر ما فعله مصرف لبنان أخيراً. نفّذ عمليات مالية (هندسات) غير تقليدية، كان هدفها إطالة آجال الديون المستحقة عليه وعلى وزارة المال، وتجميل العجز في ميزان المدفوعات. عملياً، نجح المصرف المركزي في تحقيق الهدفين، إلا أن تعاطي «موديز» الحذر وإشارتها «القلقة» إلى عجز ميزان المدفوعات، يكشف المستور. لا يجب أن تبقى الأمور في إطار التجميل، بل يجب أن تكون المعالجة أعمق. يجب أن يكون هناك علاج بنيوي. المستور هو أن مصرف لبنان أدخل سندات «يوروبوندز» في احتساب ميزان المدفوعات لكي يظهر هذا الأخير فائضاً بقيمة 430 مليون دولار، لا عجزاً فعلياً بقيمة ملياري دولار.
إذا لم يتمكن لبنان من البدء في العلاج البنيوي، قد تندفع الوكالة نحو خفض تصنيف لبنان. أكثر من ذلك، هي تنظر إلى رفع التصنيف في شكل متحفظ جداً، وتربطه بأمرين متداخلين عضوياً: إجراء إصلاحات مالية بنيوية تؤدي إلى استقرار في الدين العام، يليها مسار معاكس له، أي وضع الدين على مسار التراجع لا الارتفاع.
ولا يبتعد صندوق النقد الدولي عن هذه النظرة كثيراً. ففي التقرير الذي أصدره المجلس التنفيذي بعد اطلاعه على تقرير فريق عمل البعثة الرابعة (لمراجعة ما نشرته «الأخبار» عن التقرير على هذا الرابط: https://al-akhbar.com/Politics/244743)، أوضح المجلس أنه يوافق على تقييم فريق العمل، ناصحاً الحكومة بأن تعمل على تنفيذ الإصلاحات البنيوية الضرورية لإنقاذ النمو الاقتصادي من «عنق الزجاجة».
هكذا إذاً. لبنان في عنق الزجاجة مالياً واقتصادياً. هذا التوصيف ليس من صنع خبراء محليين، بل من جهتين دوليتين هما: وكالة التصنيف الدولية «موديز»، وصندوق النقد الدولي. تقييم هاتين الجهتين، لا يختلف أبداً عن أي تشخيص محلي للأزمة اللبنانية، أما المعالجة والحلول المقترحة، فهي عبارة عن وصفات جاهزة ينبغي التعامل معها بدقّة وبحذر.

تصنيف معلّق!
أصدرت «موديز» تقريرها السنوي عن تصنيف لبنان، وخلصت إلى أنها ستبقي على التصنيف السابق للدين السيادي، إلا أنها أبقت استقرار التصنيف على درجة B3 معلّقاً على مدى استدامة وسهولة تدفق الودائع إلى لبنان. اعتبارات الوكالة أن هذا الأمر «ينطوي على أخطار واسعة على ميزان المدفوعات ويهدّد شهيّة المصارف على الاستمرار في تمويل الدين العام». وعندما تطرّقت الوكالة إلى إمكانية رفع تصنيف لبنان، استهلّت الجملة بكلمة «متحفظ»، مشيرة إلى أن رفع التصنيف «مرتبط بتنفيذ لبنان إصلاحات مالية تؤدي أولاً إلى استقرار الدين العام ويتبعه مسار عكسي له».
وأوضحت الوكالة أنه «على رغم أن المناعة التي اتسمت بها تحويلات المغتربين وتدفق الرساميل إلى القطاع العقاري والقطاع السياحي في عام 2006 وما بعدها، إلا أنه في الفترة التي تلت (ما يسمى) الربيع العربي، تراجع أداء الاقتصاد اللبناني، وانهارت النشاطات السياحية فتراجعت نسبة الخدمات التي يقدّمها لبنان من 24 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 16 في المئة منه، وانقطع طريق التصدير البرّي عبر سوريا الذي يشكّل معبراً أساسياً لصادرات لبنان إلى شركائه التجاريين. كذلك انهارت أسعار النفط مؤثّرة في التحويلات الآتية من المغتربين في دول الخليج، لا سيما السعودية».

تقول الوكالة إن دول الخليج تستقبل ما بين 20 في المئة و25 في المئة من صادرات لبنان، ولديها أكثر من 330 ألف مغترب لبناني من أصل 880 ألف مغترب، وهي مصدر لتحويلات تمثّل ما بين 30 و40 في المئة من تحويلات المغتربين الإجمالية التي تمثّل بدورها نحو 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016 مقارنة مع 25 في المئة في عام 2004. وهذه التحويلات تشكّل مصدراً أساسياً لتعزيز دخل الأسر اللبنانية. حصّة دول الخليج في السياحة اللبنانية تكاد تساوي حصّتها في التحويلات، إذ إن السياح من الدول العربية يعدّون المصدر الأساسي للاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى لبنان، وهذا ما يجعل لبنان وثيق الصلة والأهمية مع دول الخليج والسعودية على وجه التحديد.
كذلك، تبيّن للوكالة أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى لبنان تراجعت بنسبة 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (تراكمياً) بسبب عدم الاستقرار الذي تلا اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006. أيضاً يواصل لبنان مراكمة مخزون ضخم من هذه الاستثمارات مصدرها الأساسي الإمارات والكويت والسعودية التي تمثّل 76 في المئة من مجمل التدفقات (التراكمية) البالغة 61 مليار دولار بين 2005 و2016.

فعالية هندسات «المركزي»
بالنسبة لمصرف لبنان، تلفت وكالة «موديز» إلى أن المصرف «يعمل على تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار ما يحدّ من خياراته»، وتتوقع أن «تزداد الضغوط التضخمية على لبنان، مدفوعة بارتفاع أسعار المشتقات النفطية خلال الأشهر الخمسة الأولى من السنة الحالية».
تستند الوكالة في قراءتها إلى تنامي الفوائد على شهادات الإيداع بالدولار التي يصدرها مصرف لبنان لمدة 45 يوماً إلى 4.9 في المئة في نيسان المنصرم مقارنة مع 3.6 في المئة في آذار. في رأيها، أن هذا الارتفاع يعدّ مؤشراً إلى وجود تصحيح في معدلات الفوائد المحلية انسجاماً مع التغيرات في الفوائد المحلية والسيولة الخارجية. بمعنى آخر أن الارتفاع مرتبط بوجود ظروف غير مشجّعة لاجتذاب الودائع.
فوائد شهادات إيداع «المركزي» بالدولار ارتفعت من 3.6 في المئة في آذار إلى 4.9 في المئة في نيسان


وبحسب الوكالة، فإن «لاعتبارات مالية بحتة، قام مصرف لبنان بالتدخل عبر سلسلة إجراءات مالية وعمليات بدأت في أيار 2016 لتحفيز المصارف على وضع سيولتها بالعملات الأجنبية لديه بدلاً من وضعها لدى المصارف العالمية، وذلك بهدف دوزنة الأصول الأجنبية ردّاً على سرعة تراجع التدفقات ابتداء من 2011». لكن المشكلة أن هذه التدخلات «تنجح فقط في توسيع الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان على المدى القصير فقط، أما فعاليتها فهي تبقى محدودة طالما هناك اختلال مالي خارجي ينعكس على بنية تراكم الاحتياطات». إضافة إلى ذلك، إن كلفة هذه التدخلات تأتي على حساب انحفاض السيولة بالعملات الأجنبية، وهي تزيد السوء في نوعية المطلوبات المصرفية وتضع الكلفة على مصرف لبنان.

الخطر الأكبر
لبنان من بين أضعف الدول التي صنّفتها «موديز» في إطار القدرة على الاستدانة. نسبة الدين إلى الناتج بلغت 142 في المئة وهي تتوقع أن ترتفع أكثر بسبب ارتفاع بنية معدلات الفوائد حتى مع تحقيق المالية العامة فائضاً أولياً.
الدين العام هو مؤشر الخطر الأكبر نظراً إلى الاعتماد على دين محلي بمعدل استحقاق بعد 3.8 سنوات. مصرف لبنان هو الشاري الأكبر لسندات الخزينة اللبنانية بالعملة المحلية، من أجل إبقاء معدلات الفائدة منخفضة ومستقرّة.
حاجات لبنان التمويلية تبلغ 17.2 مليار دولار في 2018 وهي تعد كبيرة وقد تم تأمين قسم منها عبر عمليات مصرف لبنان المركزي الأخيرة (الهندسات)، إلا أنه يعتمد على المصارف لتمويل الباقي والبالغ 6.5 مليار دولار.

IMF: استمرار الصعوبات
يوافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي على تقييم فريقه وأخذ علماً بأن صعوبات الوضع الاقتصادي في لبنان مستمرّة مع وجود دين عام مرتفع وعجز مالي وظروف مالية (خارجية) قاسية. ينصح المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي بأن يعود مصرف لبنان إلى الوسائل النقدية التقليدية وبأن تكون لديه رؤية على المدى الطويل لرسم سياساته، ويشجّعه على أن يرفع أسعار الفوائد كلما كانت هناك ضرورة، وأن يبقى يقظاً في التعامل مع ديناميكية الدين.
كذلك يرى المجلس أنه يجب خفض هشاشة القطاعات المالية، وأن يجري العمل على تقوية إدارة الأزمات وأطر العمل المتعلقة بمكافحة تبييض الأموال والجرائم المالية، وأن تعمل الحكومة على تنفيذ الإصلاحات البنيوية الضرورية لإنقاذ النمو من «عنق الزجاجة». هذه الإصلاحات يجب أن تتضمن إصلاحات بنيوية في قطاع الكهرباء ووقف دعم أسعارها فضلاً عن توسيع كمية الكهرباء المنتجة، ومضاعفة الجهود الحكومية لتحسين الشفافية وتخفيف الفساد وتحسين النظام الإحصائي في لبنان.



الأخطار مرتفعة
ترى وكالة التصنيف «موديز»، أن الأخطار السياسية والجيوبوليتيكية مرتفعة وتقييمها مرتفع للأخطار المصرفية أيضاً. «الارتباط الوثيق بين القطاع المصرفي وبين الدين السيادي يعدّ مصدراً للأخطار. 50 في المئة من مجمل الأصول المصرفية موظّفة لدى مصرف لبنان، لكن معدل التسليف للودائع هو أقل من 45 في المئة. أما الأخطار الخارجية فهي متواضعة».