عادت جريمة التحرّش الجنسي إلى الواجهة بعد حادثة شغلت موقع «فايسبوك» في الأيام الماضية: جملة فيها «تلميح جنسي» في مراسلات إلكترونية بين شاب وفتاة تحوّلت اتهاماً بالتحرّش، ثم قرار عجلة يمنع التداول باسم الطرف المتَّهَم إلى حين البتّ في قضيّة قدح وذم وتشهير رفعها ضد من اتهمته.
تشهد بيئتا العمل والمدارس أكثر أنواع التحرّش شيوعاً (مروان طحطح)

ربما كان بالإمكان البناء على جرأة المتّهِمة في فضح «المتحرّش» المفترض، وتحويل الحادثة إلى قضيّة رأي عام أوسع من الوسوم (#هل_هو_متحرش #هي_مش_لوحدها و #لديّ_شهادة_أخرى). لكن ضعف الأدلّة ــــ حتى الآن ــــ وإلزام القضاء المتّهِمة بالصمت قبل إثبات باقي ما في جعبتها، أخذ النقاش إلى مكان آخر قد يروق «الذكوريين» أو من يستسهلون التعرّض بجملة أو كلمة قد تحمل أذى معنوياً جسيماً.
القصّة ليست «بسيطة» طالما المرأة هي الحلقة الأضعف في مجتمع ذكوريّ. إلا أنها، بفعل النقاشات الافتراضيّة الفارغة، خضعت «للتبسيط». هذا كلّه لا ينفي حقّ المتّهم بالدفاع عن نفسه ومنع سهولة التبلّي. لكن المفارقة أن في ذلك فرصة يقتنصها من يشعرون بفائض القوّة كذكور لتسخيف أي نقاش محتمل. هذا النقاش الذي كان إقرار قانون يجرّم التحرّش الجنسي ليعقلنه، وكان ليحدّده أكثر لو كان المجلس النيابي السابق أكثر جديّة في نقاش مشروعي قانون طرحا عليه والتسريع في بتّ أحدهما مع تعديلات أو دمجهما.

مراجعة المشاريع ضرورة
أحد المشروعين هو «مشروع قانون معاقبة جريمة التحرش الجنسي الذي تقدّم به وزير الدولة لشؤون المرأة في حكومة تصريف الأعمال جان أوغاسبيان عام 2017 وأقرّه مجلس الوزراء العام الماضي، والثاني مشروع قانون معجل مكرر أعدّه النائب السابق غسان مخيبر (2014)، وقد طرحا معاً على المجلس النيابي. ورغم مطالبة النواب بدمج المشروعين اتسمت النقاشات حولهما بعدم الجديّة. وثمّة مشروع قانون ثالث لـ«المجموعة النسويّة» غيّب عن التداول مع توقف المجموعة عن العمل. ناشطون حقوقيّون يتخوّفون «من اتجاه المجلس نحو التعديل المخفّف لأي قانون ينوي إقراره»، ويطرحون تساؤلات حول «جديّة المجلس الجديد بالتعاطي بانتظار تشكيل اللجان، وإن كانت هناك نيّة بالتسريع بإعادة طرح مشروع القانون». كما ينتظر هؤلاء القرار الظني بقضيّة القدح والذمّ المرفوعة أخيراً، ويتخوّفون من تأثيره في حال كان «سلبياً» على «إمكانية فضح المتحرّشين لاحقاً، إلاّ إذا امتلكت الضحيّة أدلّة إضافية تجعلها ترفع دعوى مضادة».
ويبدي الحقوقيون ملاحظات على مشروع أوغاسبيان الذي يطرح تعديل قانون العقوبات ويدعو إلى استحداث المادة 535 تحت الفصل الخاص بالجرائم المتعلّقة على الحض على الفجور والتعرّض للأخلاق والآداب العامة، وهو ما يتنافى بحسب هؤلاء مع جوهر مناهضة التحرّش. فتحت هذه المادة يقدّم مشروع القانون التعريف التالي للتحرش: «القيام بالكلام أو الكتابة، وبأي وسيلة من وسائل الاتصال، بإستخدام كل ما يحمل دلالات جنسية وتنال من شرف وكرامة الضحية أو تنشئ تجاهها أوضاعاً عدائية أو مهينة. كما يعتبر تحرشاً جنسياً ممارسة كافة أنواع الضغوط، ومنها التهديد، بهدف إقامة علاقة جنسية سواء مع الفاعل أو مع الغير».

تعريف التحرّش
بحثاً عن تعريف التحرّش كفعل جرمي وتحديد عناصره وكيفيّة إثباته كما تنصّ القوانين (في ما عدا بيئة العمل) خصوصاً في الحالات التي يصعب الإثبات فيها، يلفت المحامي كريم نمّور إلى «أنه لا يمكن اعتبار أي فعل تحرّشاً ما لم تتوافر عناصر عدة، وإلاّ أصبحت القوانين كشرطة أخلاقيّة ضابطة للعلاقات بين الناس». ونمّور الذي عمل مع «المجموعة النسويّة» على إعداد مشروع قانونها حول التحرّش، يشير إلى أنه أثناء إعداد المشروع «اطلعنا على أكثر من ثلاثين تشريعاً حول العالم لتحديد مفهوم التحرش، وكان عنصرا التكرار والإلحاح من العناصر القليلة التي تتفق عليها معظم التشريعات، وإلا أصبح القضاء يلعب دور شرطة آداب على العلاقات في المجتمع». ويتابع: «من هنا تأتي أهميّة القانون وعقلنته لأي نقاش تحكمه العواطف عبر السوشيل ميديا». إذاً لن تكون هناك «مدينة فاضلة» لا يلمح فيها فرد إلى رغباته. وعنصرا التكرار والإلحاح لا يمكن الأخذ بهما في بيئة العمل فقط لأنها خاضعة لسلطات رب العمل وإمكانية ابتزاز العامل وتهديده بخسارة وظيفته بسبب طبيعة العلاقات الهرميّة، وهذا ما «لحظه مشروع قانون نسويّة الذي يخفّف من عبء الإثبات» وفق نمّور، على عكس مشروع قانون أوغاسبيان «الذي يساوي بين العمل ورب العمل ويصلح لبيئات عمل تعاونية فيها مساواة فعليّة مثل سويسرا والسويد، ويطالب العامل بإثبات تعرّضه للتحرش في حال نشوء نزاع قضائي».
لا يمكن اعتبار أي فعل تحرّشاً ما لم تتوافر عناصر عدة


وتشهد بيئتا العمل والمدارس أكثر أنواع التحرّش شيوعاً، وينقسم التحرّش فيهما إلى «عمودي يشوب علاقات رب العمل بالعاملين معه الخاضعين لسلطته ضمن الهيكلية الهرميّة ولا يمنع أن يكون التحرّش تصاعدياً صادراً عن العاملين في بعض الحالات» بحسب نمّور، «وأفقي يحصل بين الأجراء أنفسهم». ويشدّد الحقوقيون على ضرورة أن يكفل أي قانون لتجريم التحرش استمرارية العمل «حيث أن التوقيف ورفع القضايا أمام المحاكم وسواها من الاجراءات قد تعطّل هذه الاستمرارية». وعلى هذا الأساس يشدّد نمّور على «أهميّة تعزيز المعالجة المدنيّة أمام مجالس العمل التحكيمية التي يمكنها تأمين استمرارية العمل وإيقاف التحرّش». ويلفت إلى ضرورة إلغاء المادة السابعة من قانون العمل (طالب بإلغائها مشروع النسويّة) التي تستثني العاملات في الخدمة المنزليّة والعاملين في المؤسسات العائلية وغيرهما من الفئات الأكثر عرضة للتحرش.
يقول نمّور في ما يخصّ الحادثة موضوع التداول: «في غياب القانون، واستناداً إلى مشاريع القوانين الثلاثة، وفي ظل عدم وجود إثبات على التكرار والإلحاح والتقدّم بالاعتذار أقلّه في ما نشر، ولو فرضنا أنّ النيّة السيّئة موجودة، فهذا غير كافٍ قانونياً لتكوين فعل تحرّش. أمّا في ما خلا ذلك فإن أي أدلّة أخرى يمكن الاعتماد عليها سنداً إلى مواد في قانون العقوبات ومنها التعرض الجسدي والإخلال بالآداب العامة واستخدامها لفض أي اشكالية حول التحرش ولو بشكل مؤقت إلى حين إقرار إطار تشريعي يجرّم التحرّش الجنسي والمعنوي الذي لا يقلّ خطورة». وبرأي نمّور، من غير الصحيّ أن تصبح كل كلمة أو جملة تحرّشاً لأن في ذلك «تسخيف لموضوع التحرّش»، لا بل إفساحاً في المجال لردود فعل ذكوريّة وللاستخفاف بالمرأة وبالموضوع وهذا «مؤسف». ولا يخفي نمّور أهميّة أن يكون هناك قاضٍ شجاع يحصل على دعم من الرأي العام ليفعّل البحث في القضية وفتح النقاش بشكل أكبر وعلى صعيد وطني، لأن النقاشات الدائرة عبر مواقع التواصل تحصل ضمن دائرة محددة من الأصحاب المتشابهين في الرأي، وهي تشكّل فقاعات افتراضية لا تتحوّل إلى نقاش عام أو تؤثّر فيه.