ما الطريقة الأمثل ليُبرر الكيان الصهيوني اجتياحه للبنان؟ «حملة واسعة من التفجيرات بالسيارات المُفخخة، التي أوقعت المئات من الفلسطينيين واللبنانيين، أغلبهم من المدنيين». هذه الحملة هدفها استدراج منظمة التحرير الفلسطينية للرد، سواء بقصف الجليل أو بعمليات فدائية تبرّر لاحقاً غزو لبنان.
حصل ذلك بين العامين 1979 و1982، حين «تورطت الحكومة الإسرائيلية في تأسيس منظمة (وهمية) قامت بعدّة عمليّات إرهابية في لبنان». ما تقدّم ورد في كتاب «انهض واقتل أولاً: التاريخ السرّي لاغتيالات إسرائيل الموجّهة»، للكاتب «الاسرائيلي» الشهير، رونن بيرغمان، أحد أبرز الصحافيين الإسرائيليين المتخصصين بالشؤون الأمنية، وكان يُعد صديقاً شخصياً لرئيس الموساد السابق مائير داغان. وتولت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية نشر فصول من الكتاب.
تفسير «الإرهابي»، بالنسبة إلى العدّو، هو «الآخر» الذي «ينتمي إلى العالم المُتخلّف أو غير المُتحضر». انطلاقاً من ذلك، كان أحد أهداف العمليات السرّية للإسرائيليين، «دفع منظمة التحرير الفلسطينية إلى اللجوء إلى «الإرهاب» لتُبرّر (إسرائيل) غزوها للبنان»، يُخبر ريمي برولان الذي تولى ترجمة الكتاب. والأخير مختص بمتابعة الإرهاب الأميركي، ويدرس حالياً في كلية القضاء الجنائي في نيويورك.
يوميات اللبنانيين والفلسطينيين، في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، كانت عبارة عن أيام سوداء مسكونة بالرعب والقلق الدائمين، «نتحدّث عن إبادة جماعية، لا لشيء سوى قتل وبثّ الفوضى والرعب في المدنيين. منذ متى تُرسل الحمير مُحمّلة بالقنابل إلى الأسواق لتفجيرها؟». هذه المعلومة، نقلها رونان بيرغمان عن أحد عناصر «الموساد».
أراد الإسرائيليون خلق فوضى بين الفلسطينيين والسوريين في لبنان


بدأت القصّة (وفق بيرغمان) حين قامت «سرية إرهابية» من جبهة تحرير فلسطين بأسر وقتل أب وابنتيه البالغتين الثانية والرابعة من العمر، وذلك في 22 نيسان عام 1979، في مستوطنة قريبة من الحدود اللبنانية. على الأثر، «بدأ رئيس الأركان (حينها) الجنرال رفاييل إيتان، بالتنسيق مع قائد المنطقة الشمالية الجنرال أفيغدور بن غال، لتشكيل مجموعة دورها القيام بعمليات إرهابية في لبنان». وُظّف للغاية مئير داغان، الذي سيتولى لاحقاً رئاسة «الموساد»، وأنشأ الثلاثة «جبهة تحرير لبنان من الأجانب». قلةً كان الأشخاص المُطلعون على العملية، ومن بينهم الجنرال دافيد أغمون، الذي شرح أهدافها بأنّها «خلق فوضى بين الفلسطينيين والسوريين في لبنان، دون ترك بصمات إسرائيلية، ليتولد لديهم الانطباع بأنهم مهاجمون». لم يكن الأمر ليكتمل من دون «تجنيد بعض اللبنانيين، الناقمين على الفلسطينيين. فقتلت الجبهة بين الـ1979 و1982 مئات الأشخاص».
يشرح رونان بيرغمان كيف أنّ «الجبهة» كانت تستخدم «متفجرات مخبأة في صفائح الزيت والمعلبات الغذائية، مُصنعة في مشغل الصفيح الموجود في «كيبوتس مهناييم»، في الجليل الأعلى، حيث كان يقطن بن غال، لتُمرّر في ما بعد إلى لبنان». استهدفت القنابل منازل «المتعاونين مع منظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان، أو مكاتب مُنظمة التحرير في صور وصيدا ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين». لم تكن الصحافة الأميركية بمنأى عن تغطية العمليات التفجيرية، «كان الصحافيون الأميركيون يصفون الجبهة بـ«مجموعة مراوغة من اليمين المُتطرف»، وأحياناً يذكرون بأنّ الفلسطينيين وحلفاءهم كانوا مُقتنعين بأنّ الجبهة ليست إلا اختراعاً إسرائيلياً».
لم تكن الحكومة الإسرائيلية، بحسب بيرغمان، موافقة على عمليات «الجبهة»، وقد واجهت «اعتراضاً حاداً من قبل عدة مسؤولين في شعبة الاستخبارات العسكرية (آمان) وداخل الحكومة، إلا أن هذه الاعتراضات لم توصل إلى نتيجة». يذكر بيرغمان، مثلاً، اجتماعاً عُقد في مكتب رئيس الوزراء مناحيم بيغن، اتهم خلاله نائب وزير الدفاع الإسرائيلي مردخاي تسيبوري، بن غال بالقيام «بأعمالٍ غير مُصرّح بها في لبنان، سبّبت قتل نساء وأطفال». برّر بن غال الأمر بأنّ من قُتلوا هم «إرهابيون»، وكانت تلك «نهاية الاحتجاجات على العمليات السرية التي أدارها إيتان وبن غال وداغان».
عُيّن أرييل شارون وزيراً للدفاع في 5 آب 1981، ومعه تكثّفت التفجيرات باستخدام السيارات المُفخخة، وهي كانت جزءاً من «حملة الاستفزاز للفلسطينيين لتوجيه ردّ مُسلح، تستطيع اسرائيل إدانته على أنّه هجوم إرهابي، لتُبرّر عدواناً شاملاً على لبنان (...) أو على الأقلّ حثّ منظمة التحرير على القيام بعمليات انتقامية ضدّ الكتائب اللبنانية، ما سيُتيح لإسرائيل أن تهرع بكامل قواتها للدفاع عن المسيحيين». في كتابه «انهض واقتل أولاً: التاريخ السرّي لاغتيالات إسرائيل الموجّهة»، تناول بيرغمان هذه الفكرة، فذكر أنّه «بدءاً من أيلول 1981، انفجرت السيارات المُفخخة بانتظام داخل الأحياء الفلسطينية في بيروت وفي مدن أخرى». وأضاف أنّه «في كانون الأول 1981، فقط، انفجرت 18 قنبلة، مزروعة في سيارات أو على دراجات نارية أو هوائية أو على حمير، بالقرب من مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية أو في أماكن وجود الفلسطينيين، ما أدّى إلى وقوع عدد كبير من القتلى... منظمة مجهولة تُدعى جبهة تحرير لبنان من الأجانب تبنّت مسؤولية جميع هذه الحوادث». ونقل صحافيون في «نيويورك تايمز»، في حينه، أنّ «مجهولاً» من «الجبهة» صرّح لوسائل الإعلام الأجنبية بأنّ «العمليات لن تتوقف إلى أن يُغادر آخر أجنبي». أما داخل إسرائيل، فحُمِّلَت مسؤولية العمليات في لبنان لـ«الحروب الداخلية في منظمة التحرير الفلسطينية».

تكثفت السيارات المفخخة الإسرائيلية بعد تعيين شارون وزيراً للدفاع


لم يقع ياسر عرفات في «الفخّ». أدرك جيداً أنّ العمليات جزءٌ من الاستراتيجية الإسرائيلية، فأمر بضبط النفس. وكتب بيرغمان أنّه «في وجه ضبط النفس الفلسطيني، قرّر قادة الجبهة رفع المستوى». أعاد شارون عرفات إلى قائمة الأشخاص المطلوبين، بعد أن كان قد أُزيل عنها عام 1974، «وخطّط شارون، بالتعاون مع بن غال وإيتان، لعملية أولمبيا، التي أملوا أنها ستُغيّر مجرى تاريخ الشرق الأوسط... قبل أن تُستبدل بها خطة أكبر أُطلق عليها اسم أولمبيا 2». العمليتان وُضعتا لاستهداف احتفال لمنظمة التحرير. عَرف نائب وزير الدفاع مردخاي تسيبوري بالمُخطّط، فأخبر بيغن «الذي دعا إلى اجتماع طارئ، قبل يومٍ من تنفيذ أولمبيا 2. عَرض إيتان وداغان الخطة. اعترض تسيبوري. وخاف بيغن من حضور السفير السوفياتي احتفال منظمة التحرير». بالنتيجة، أخذ رئيس الوزراء القرار بإحباط العملية.
بعد «طول انتظار»، وَجد شارون وبيغن بإطلاق النار على السفير الإسرائيلي في إنكلترا (في 3 حزيران 1982)، «حُجّة لغزو لبنان». على الرغم من أنّ المسؤول عن العملية ضد السفير (كما تبيّن لأجهزة الاستخبارات الاسرائيلية) كان أبو نضال «عدو ياسر عرفات اللدود، الذي تقاطعت أهدافه الخاصة وأهداف إسرائيل»، وليس منظمة التحرير الفلسطينية. قصفت إسرائيل «منظمة التحرير في بيروت ومحيطها قصفاً جوياً كثيفاً، ما أوقع 45 قتيلاً. هذه المرة، ردَّ عرفات. في الخامس من حزيران، قدّم شارون خطة عملية سلامة الجليل» (التي انتهت باحتلال الجيش الإسرائيلي لبيروت). اختير الاسم، بحسب بيرغمان، «لإعطاء الانطباع بأنها كانت دفاعاً عن النفس، تقوم بها إسرائيل مكرهة». هكذا، بدأت الحرب الإسرائيلية الأولى ضدّ لبنان.
أكّد بيرغمان أنّ «عدداً لا يُحصى من القنابل الإسرائيلية فُجِّر في مخيمات اللاجئين، وفي الأحياء الفلسطينية وفي أماكن تركّز وجود الفلسطينيين، ما يدل على أنها استهدفت المدنيين». يصف «جبهة تحرير لبنان من الأجانب» بأنها «تنظيم إرهابي». ويتطابق ذلك، مع ما أسرّ به لبيرغمان مسؤولون في «الموساد»، بأنّ «عمليات الجبهة إرهابية بكل وضوح». يُخبر أحد هؤلاء المسؤولين أنّه «كان يرى من مسافةٍ ما إحدى السيارات تنفجر وتُدمر شارعاً بأكمله. كنا نعلّم اللبنانيين حينها إلى أي درجة قد تبلغ فعالية سيارة مفخخة. كل ما رأيناه لاحقاً مع حزب الله، ولد مما رأوه يحدث بعد هذه العمليات».