لم يبق سياسي واحد، ورجل دين كذلك، إلا وطالب بمكافحة الفساد.حتى الذين يسبحون منذ عقود في مستنقعات الفساد، رفعوا رؤوسهم وأصواتهم في وجه الفساد.
فمن نصدق؟ علماً أن هناك اثنين لا يرقى شك إلى صدقهما، في ضرورة وضع خطط لمكافحة الفساد، هما الرئيس ميشال عون والسيد حسن نصرالله، وخصوصاً أن مصير العهد مرتبط بقدرته على التغلّب على حيتان الفساد.
وإلى الذين يعتبرون أن الفساد مسألة بسيطة تُمحى بممحاة طبشور، نقول: أنتم مخطئون.
فقد أظهرت دراسة أُجريت حول أسباب الفشل في القضاء على الفساد في اليابان ــــ البلد الذي يسجّل أعلى مستوى للفساد في العالم، ما أدى إلى إطاحة عدد كبير من السياسيين، وخصوصاً رؤساء الحكومات ــــ أظهرت أنها تربية تتحول مع الوقت ثقافة يتوارثها جيل عن آخر.
تقول الدراسة إن بذور الفساد موجودة في المنزل. فمن الولادة تدهن حلمة الرضاعة لدى الأم إغراءً للطفل بالرضاعة.
وعندما يكبُر يُرشى بحلوى لتناول أطعمة لا يستسيغها.
وعندما يصبح بعمر الدراسة، ويرفض الانفصال عن والدته للصعود إلى الحافلة، يرشى ببعض الحلوى، وتقدّم الأم رشى لسائق الحافلة وللمعلمة التي تهتم بالأولاد وتحرص على ألا تفوتهم الحافلة.
وفي المدرسة، تهتم الوالدة برشوة المعلمة لإيلاء ابنها اهتماماً خاصاً، فتساعده في دروسه، ولا تغيب عن ناظريه في الامتحانات، وعند الحاجة تغطي محاولاته للغش، فتمرر له أحياناً الأجوبة عن أسئلة الامتحان الخطية، كذلك توصي به لدى المعلمين والمعلمات في الامتحانات الشفهية.
وعندما يصل الابن إلى الجامعة تكون قد اكتملت لديه صفات الفاسد بامتياز.
ويتساءل واضع التقرير أخيراً: بعد ذلك، هل نعجب من مستوى الفساد في أي بلد؟
وهنا يطرح سؤال: هل تأخرت جمعية حماية المستهلك في إثارة موضوع الأدوية وأسعارها في وجه «وزير الظل للطاقة» الذي كان منشغلاً في القصف على وزراء التيار الوطني الحر في الحكومة بإظهارهم أنهم «عصابة لصوص وسماسرة» في موضوع الكهرباء، فيما المرضى يئنون من وطأة استغلال تجار الأدوية لأوجاعهم، وكثيرون منهم قضوا لافتقارهم إلى ثمن الدواء؟
وكان صديقنا الدكتور إسماعيل سكرية، قد جعل مسألة الدواء قضيته، وأصدر أخيراً كتاباً ناطقاً بالمافيات التي تسيطر على هذا القطاع، فجوبه بالقرد الأبكم والأصم والأعمى!
ولا نغالي إذا قلنا إن وزارة الصحة هي «مغارة علي بابا» الحقيقية، وإن «دود الخل منه وفيه».
وللمناسبة، زارني ذات يوم من تسعينيات القرن الماضي وزير صديق للصحة وقال لي: «أنا قاصدك لتساعدني بالبقاء في وزارتي، لأن هناك من يسعى لدى القيادة السورية لسحبها مني»، فعجبت للأمر، وسألته: من هو هذا؟ فأجابني: «أنت تعرفه جيداً، وهو قال للسوريين إن وزارته ما بتطعمي، لأن لديه حاشية تريد أن تعيش»، وأضاف أن الوزارة التي يشغَل لا تلبي حاجته، لذلك وضع عينه على وزارة الصحة، لأنها دجاجة تبيض ذهباً من الأدوية وتسجيلها، وتبديل أسمائها، واعتماد وكلاء وتبديلهم، حتى المستشفيات والمستوصفات، فضلاً عن الأدوية المصنّعة محلياً وأذوناتها، إلى المختبرات التي تدرّ ملايين الدولارات.
ولأني أعرف موقع الوزير الآخر لدى السوريين، فقد نصحت له بأن «يقطش قرّيعة»، كما يقول المثل الدارج، وأن يقبل بأي وزارة أخرى. وهنا سألته عن الوزارة البديلة، فأجاب: «السياحة». فنصحته بأن يقبل بها ولا يغضب أصدقاءه السوريين «الذين لا ينكرون خدمة «عجائبية» أسديتها إليهم فكافأوك بالوزارة».
وحصل بعد تولي الوزير الآخر الوزارة أن جاءني صديق صيدلي قال لي إنه نال عقد وكالة حصرية لدواء مضاد للحساسية ويريد تسجيله في وزارة الصحة ويرغب في أن أساعده في ذلك، إذ قيل له إن تسجيل الأدوية الجديدة متوقف.
حصلنا على موعد مع الوزير، فرحب بِنَا بحفاوة، ولما عرضنا عليه موضوع الدواء، قال لنا إن «الأمر صعب، لأن اللجنة الفنية التي يفترض أن توافق على التسجيل متوقفة عن الاجتماع منذ مدة»، وعندما سألناه: ما العمل؟ أحالنا على المدير العام الذي أبلغنا الكلام نفسه.
خرجنا من الوزارة يائسَين، إلى أن لمعت في رأس الصيدلي فكرة البحث عن السبل التي تستعمل منذ أشهر لإنزال أدوية جديدة، في ظل لجنة لا تجتمع، وزارني في اليوم التالي متأبطاً ملفاً يضم أكثر من ١٥ ألف اسم دواء أُنزلت إلى السوق دون الحصول على رقم من اللجنة الفنية، وهو الشرط الشرعي للسماح بتوزيع الدواء.
حملنا الملف في اليوم التالي إلى الوزير، فأحالنا على المدير العام، «لأن الأمر يعود إليه»، فتظاهر المدير بأن المسألة تتجاوزه، ثم قال لنا إن المخرج الوحيد هو أن يوقّع الوزير المعاملة، مع الإشارة إلى أنها «إجازة موقتة إلى أن تعود اللجنة الفنية إلى الانعقاد»، فعدنا إلى مكتب الوزير مجدداً للحصول على توقيعه، وفيما نحن ننتظر فراغ الوزير من اجتماع في مكتبه، سمعنا موظفاً يسرد على مسامعنا، وهو يتحدث على الهاتف بدلات «الإتاوات» التي على صاحب العلاقة دفعها في مقابل تسجيل دواء، أو تغيير اسمه، أو تغيير وكيله، وكلها أموال بعشرات آلاف الدولارات، وقد علمنا لاحقاً أن هذا الموظف يملك خاتم الوزير، وأن المعاملات تمرّ به، وأن الدفع يتم له مباشرة! (تردد بعد أشهر أن هذا الموظف اشترى شقة في أفخم مناطق بيروت).
وقّع الوزير المعاملة، ولكن بقيت مهمة إخراجها من مكتب دائرة الصيدلة، وقد حضر صديقنا الصيدلي مرات عدة إلى هذه الدائرة، فلم يجد الطبيب المختص، إلى أن استوقفه أخيراً أحد الحجّاب وأبلغه أن (الدكتور ق.) لا يحضر إلا إذا كانت هناك معاملة قد دفع صاحبها «إتاوة» إخراجها من الدرج، وأشار عليه بأن يعود ويضع مبلغ ألف دولار في الدرج الأول الذي يبقى مفتوحاً مع اسمه أو بطاقته ويحضر في اليوم التالي فيجدها جاهزة في الدرج حيث وضع الدولارات.
غضبت عندما عرفت بالأمر، وتوجهت إلى وزارة الصحة، ودخلت دائرة الصيدلة وأنا أصرخ: «يا عيب الشوم عليكم، ما بتستحوا. دكانة خضرة أحسن منكم».
والتفتت نحو إحدى الموظفات فوجدتها بكامل أناقتها، وكان قد ورد في الإعلام أنها عائدة من أحد المؤتمرات كمرافقة لزوجة مسؤول كبير وأن «تايورها» وحده كلّف ثلاثة آلاف دولار!
إنها شهادة، اللهم إني بلغت.
ملاحظة: الوزير لا يزال نافذاً، ويطالب لفريقه في الحكومة الجديدة بدجاجة تبيض دولارات!