مع صدور القرار الظني في قضية الفنان زياد عيتاني، يتبين لنا أن الجهة التي «كشفت العميل» وحظيت بالإعجاب الإعلامي هي نفسها الجهة التي قامت بتركيب ملف للإيقاع بأحد الزملاء الصحافيين. كما تبين أن الضابط التابع لمؤسسة أمنية هي مصدر المعلومات التي استندت إليها مؤسسة أمنية أخرى من دون التأكد من صدقيتها. واللافت أن من كشف «تلاعب الضابط» ما هو إلا فرع استعلامي في المؤسسة الأمنية التي تتبع لها الضابط أصلاً.يستدعي كل ذلك مراجعة وتدقيقاً في علاقة المؤسسات الأمنية ببعضها وبعلاقة المؤسسات الإعلامية بها والأساليب والحيل التي يلجأ إليها ضباط الأمن للتلاعب بالرأي العام خدمة لمصالح المؤسسة التي ينتمون إليها، وذلك على حساب أمن المواطنين وسلامتهم وعلى حساب قدرة الدولة الفعلية في مكافحة العمالة للعدو وملاحقة الضالعين فيها قضائياً.
يستدعي ذلك أيضاً مراجعة المؤسسات القضائية التي يطغى شبح المحاصصة الطائفية والمذهبية والسياسية عليها ويحول أركانها إلى مساهمين في التناتش الفئوي للنفوذ في مؤسسات الدولة.
لكن قبل ذلك وغيره، ومن أجل تكوين مفهوم أوضح في شأن تسلسل الأحداث، لا بد من التذكير بالآتي:
يمنح القانون مؤسسة أمن الدولة صلاحيات استثنائية في العمل الاستخباري والاستعلام والرصد تتفوق على الصلاحيات التي يمنحها القانون للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات التابع لها؛
أنشئت مؤسسة أمن الدولة بالأساس لتكون من حصة مذهب محدد (الشيعي) أسوة بالمذاهب الأخرى، لكن هذا الوضع تغير بعدما حصل المذهب على حصته في مؤسسة أخرى (الأمن العام)، مع الاحترام للجميع وتقدير السلوك الوطني غير الطائفي وغير المذهبي للعديد من الضباط القادة في تلك المؤسسات؛
شهدت حكومة الرئيس تمام سلام مساعي جدية لإلغاء مؤسسة أمن الدولة بينما سعى سياسيون تابعون لمذهب آخر (الكاثوليك)، من دون جدوى، إلى اعتبارها من حصتهم في معادلة المحاصصات القائمة في لبنان؛
بعد انتخاب الرئيس ميشال عون أعيد إحياء مؤسسة أمن الدولة على أن تستعيد دورها كمؤسسة تابعة للمجلس الأعلى للدفاع الذي يترأسه رئيس الجمهورية.
وقع حينها الشرّ. وفجأة استعجل بعض الضباط تسريب خبر «الإنجاز الكبير» بالتمكن من إلقاء القبض على «عميل» هو شخصية معروفة في الوسط الفني في لبنان وضجت وسائل الإعلام وتهافت الصحافيون، ببراءة وحماسة، لجمع كل ما يمكن جمعه من أخبار وروايات في شأن ذلك «الإنجاز الكبير». وافتتح بازار تلاعب ضباط المخابرات بالمعلومات وما زال البازار مفتوحاً حتى اليوم. ضباط يخابرون إعلاميين من هنا وآخرون يسربون مستنداً سرّياً من هناك وضباط يرسلون تسجيلاً صوتياً أو محضر تحقيق.
وبفضل التسريبات والتسريبات المضادة تحوّل «العميل» إلى «بطل» و«البطل» إلى «مفتري» واخترعت كل أنواع الروايات والقصص عما جرى وعما خفي. جمهور «الأخبار» يصدّق «الأخبار» وجمهور «المستقبل» يصدّق «المستقبل». كل «الأدلة والبراهين» الصحيحة بالنسبة لهذا الجمهور، هي مفبركة بالنسبة للجمهور المقابل. وبالتالي، ما يقوم به الإعلاميون فعلياً ليس إلا مخاطبة جمهورهم في ما يشبه سفاح القربى... وإذا فبرك الصحافي خبراً فهو لا يكذب إلا على جمهوره ونفسه لتبرير صدقيته وتلميع سمعته. ومن يبدأ التلفيق أو من يبدأ بخبر مفبرك لا يقوى على التوقف والاعتراف بالخطأ بل يستمر في تسريب الروايات وتكرار ادعائه بأنه على حق...
هكذا وقع الاعلام والقضاء في قبضة الضباط وضاع الجمهور بين الحقيقة والحقيقة الأخرى وبين الإدانة والإدانة المقابلة وبين البراءة المفقودة والبراءة المنشودة والبراءة المعمول بها. كل ذلك بفضل غياب السلطة القضائية التي بات قضاتها جزءاً من المشهد بدل أن يكونوا هم المرجع الوحيد. باتوا سكاكين الزواريب الصغيرة بدل أن يكونوا سيف احقاق الحق.
فيا حضرة القاضي،
يا حضرة رئيس المجلس الأعلى للقضاة،
إن من يضغط بالسكين بيد ويتمسك بمصالحه الشخصية أو الفئوية باليد الأخرى ليس كمن يمسك بالسيف بيد ويرفع الميزان باليد الأخرى.
يا حضرة القاضي ارفع الميزان واضرب بالسيف مغمض العينين حتى لو قطع رأس رئيس تحرير أو رئيس بلاد أو مدير جهاز مخابرات من هنا وفرع مخابرات من هناك أو رئيس مذهب أو طائفة أو ملّة أو عصابة.