بات سعد الحريري في الفترة الأخيرة مسكوناً بهاجس التفرد بالزعامة السنية. لهذه الغاية، استبعد كل الرموز «المستقبلية» التي تشكل بالنسبة إليه تهديداً حقيقياً، فيما تمكنت شخصيات سنية من خارج التيار الأزرق من ترسيخ حضورها في الانتخابات النيابية الأخيرة. هي لا تشكّل مصدر قلق للحريري وحسب، بل إنها أقرب ما تكون إلى الكوابيس التي تلاحقه. ففيما هو يتراجع شعبياً، أظهرت الانتخابات الاخيرة تقدم منافسيه، أو على الأقل، ثبات شعبيتهم.بدافع الحاجة إلى التفاف جمهوره حوله، كان سعد الحريري، في ما مضى، يصّور النواب السّنة الخارجين عنه بأنهم لا يُمثلون «بيئتهم»، وبأن رافعتهم للوصول إلى مجلس النواب ليست سنّية، بل يصلون من خلال تحالفاتهم السياسية، سواء معه أو مع خصومه. قبل تكليفه مجدّداً تشكيل الحكومة، كرّر الحريري النغمة ذاتها. قال إنهم «وصلوا على أكتاف غيرهم». هي نغمة يُمكن تصديقها في زمن القانون الأكثري، فحسب. أما في ظل القانون النسبي، فلا ينفَع تجريدهم من صفتهم التمثيلية، التي كانت جسر عبورهم إلى النيابة.
اختلف مشهد اليوم عن عام 2009. فقد خاض هؤلاء انتخابات السادس من أيار 2018 ضمن لوائح هم كانوا على رأسها، وفازوا بالمقاعد التي كان يستولي عليها تيار المُستقبل بقوة بلوكات القانون الانتخابي الأكثري.
حينَ احتفلَ في بيتِه وبين جمهوره بالنصر – بعد أيام من الانتخابات ـــ لم يقصِد الحريري التعبير عن الفرح بالفوز، إنمّا الفرح بالحدّ من الخسارة. أكثَر تواضعاً من الجميع كان، حين اعترف بأن ثمّة خسارة في مكان ما (يوم أعلن أسماء نوابه الناجحين من وادي أبو جميل). وأكثر واقعية، أيضاً، لم يحسِبها كغيره بعدد المقاعد التي فقدها أو نالها. بل بعدد النواب ـــ الخصوم (تحديداً السنّة) الذين حالفهم الحظ. يشكّل هؤلاء مُثلّثاً سنّياً يربط الشمال بالبقاع، ثمّ الجنوب وبيروت، ويضمّ زعامات مناطقية ستسعى الى تشكيل لوبي ضاغط على رئيس الحكومة في المرحلة المقبلة. هؤلاء سيشكلون كابوساً حقيقياً بالنسبة إليه.
الإيجابية الوحيدة التي يُمكن تسجيلها، هي عدم اضطراره إلى التعايش مع واقع سياسي على يمينه. نجح قبلَ الانتخابات في استبعاد النائب السابق خالد الضاهر، وأُخرج الوزير السابق أشرف ريفي من التركيبة بحكم النتائج. فيما بقيت على يساره، مجموعة سنية من 10 نواب مستقلّة عن الحريرية السياسية.
لا ينضوي أعضاء هذه المجموعة في إطار سياسي موحّد. وليس بالضرورة أن يكون لهم موقف واحد من مجمل القضايا. حتى إن نسب تأثيرهم على الحريري متفاوتة. بعضهم ينضم الى كتل نيابية كبيرة، وبالتالي، لن يكون قادراً على بناء حيثية مستقلّة. كما في حالة النائب قاسم هاشم (كتلة التنمية والتحرير)، والنائب الوليد سكرية (كتلة الوفاء للمقاومة)، والنائب بلال عبد الله (اللقاء الديموقراطي).
بعضهم الآخر، قد يسعى الحريري إلى اجتذابه. أو قد تدخل مساعٍ خارجية (سعودية وإماراتية وربّما مصرية) لخفض منسوب معارضته. فبحُكم التجربة، ثبُت أن فيهم من يُراعي جيداً مصالحه الخارجية، بعيداً عن اعتبارات الداخل اللبناني، والحديث هنا، يعني رئيس حزب الحوار فؤاد مخزومي الذي جهِد لأن يكون على لائحة الحريري في بيروت دون جدوى. بينما يمكن أن يشكل النائب عبد الرحيم مراد حالة فريدة من نوعها، فهو كرس زعامته في البقاع الغربي، من جهة، وله حساباته اللبنانية والعربية من جهة ثانية، ويريد أن يتوازن في صياغة حضور مركب في معادلة البيت السني اللبناني.
هناك مستوى آخر من المعارضة، أكثر إزعاجاً وقلقاً. نموذجه الفاقع أسامة سعد في صيدا وجهاد الصمد في الضنية. لا يتعامل الحريري مع «الأحباش» (عدنان طرابلسي في بيروت) بصفتهم ظاهرة مقلقة حتى الآن، بل قوة يسهل استيعابها. يسري الأمر نفسه على فيصل كرامي. أما نجيب ميقاتي، فهو مصدر قلق متعدد الأبعاد. نال الرجل أصواتاً تفضيلية في طرابلس تضاهي أصوات ثلاثة نواب من المستقبل، فتصدّر الفائزين، حتى إن الحريري نفسه قال بعد زيارته له (جولة رئيس الحكومة المكلف على رؤساء الحكومات السابقين) بأن ميقاتي «هو خير من يمثل طرابلس». للرجل مشروع سياسي يتخطى عاصمة الشمال. يملك شبكة علاقات أخطبوطية من الخليج إلى تركيا والأردن وأوروبا وأميركا، وصولاً إلى علاقة مميزة مع حركة أمل وحزب الله، وعينه دوماً على رئاسة الحكومة. في جيبه ورقة يرفعها دائماً في وجه الحريري، عنوانها إنماء الشمال.
مجرد وجود هذه الكتلة، يعني أن الحريري لم يعُد قادراً على ادعاء أنه الزعيم السنّي الأوحد. لهؤلاء النواب توجهات سياسية بعيدة كل البعد عن المستقبل ومشروعه. لم يعُد الحريري قادراً أيضاً على القول إنهم يأتون برافعات شيعية أو مسيحية. ففي وقت شكّل فيه هو رافعة لكل نوابه، نجحوا هم في حصد أصوات تفضيلية من بيئتهم فاقت أحياناً تلك التي نالها نواب المستقبل.
على سبيل المثال، نال النائب عبد الرحيم مراد 15111 صوتاً، مقابل 8767 صوتاً لمرشّح تيار المستقبل محمد القرعاوي. وقد حل النائب عدنان طرابلسي في المرتبة الثانية (بالنسبة للمقاعد السنية) في دائرة بيروت، بعد الحريري بنيله 13018، وفؤاد مخزومي الثالث (11346 صوتاً). أما في طرابلس، فقد تقدّم ميقاتي على الجميع بحصوله على 21300 (أكثر مما ناله الحريري في بيروت).
هل تفوز الكتلة السنية المعارضة بمقعدين في الحكومة الجديدة؟


كان الحريري يتوقّع مثل هذه الخروق، لكنه لم يستطِع تقدير حجمها. حتى إن جزءاً من ترشيحاته حصل على هذا الأساس. لذلك ذهب إلى ضمّ مرشَّحَين سنّة في عكار كانا محسوبين على خصومه تفادياً لأي خرق (وليد البعريني ومحمد سليمان). هنا ثمة من يعتبر أن ضمانة وقوف هؤلاء إلى جانب خياراته الاستراتيجية أمر غير ثابت. الأمر نفسه ينطبق على البقاع الغربي، لجهة ترشيح محمد القرعاوي، مقابل خسارته صديقه المقرب زياد القادري.
خلطَ المشهد الأوراق السياسية، كما التوازنات القائمة. غداة خسارة تيار المستقبل ثلث النواب السنة، وفوز شخصيات أخرى محسوبة على فريق ٨ آذار، أو هي في الوسط، يعني ذلك تقليص تمثيل التيار الأزرق في الحكومة الجديدة، لمصلحة هؤلاء. ففي ظل الحديث عن أن كل أربعة نواب يحق لهم التمثل بوزير في الحكومة، معنى ذلك أن تكتلهم معاً سيحجز مقعدين وزاريين على الأقل، وهو أمر صعب المنال لأنه يصعب جمعهم في إطار واحد أو أكثر، كما كان يأمل بذلك عبد الرحيم مراد.
بعد الانتخابات، يُمكن الحديث عن تعددية في التمثيل السني. هؤلاء يجمعهم عنوان واحد وأساسي وهو الخصومة للحريري، ومواجهته. سيكون هؤلاء بمثابة قوة ضغط على تيار المستقبل. سيذكّرونه كل يوم بأنهم يقاسمونه صحن التمثيل السنّي، وخاصة عند أي استحقاق مفصلي، ولدى حصول أي انقسام عمودي في لبنان.
هذا الأمر سيفرض معادلات جديدة حالما تتغير الأوضاع والظروف الإقليمية. بمعنى أن حزب الله سيكون قادراً على تسمية أي شخصية سنية يجتمع على تأييدها هؤلاء، ولن يكون هناك إمكانية لنزع صفة التمثيل الشعبي أو الشرعية السنية عنها. صحيح أن الحريري لا يزال حتى الآن هو المرشّح الأوفر حظاً لترؤس حكومة ما بعد الانتخابات، لكن في حال سقوط التسوية واستبعاد الحريري، وتغيّر المعطيات، فلن يكون بإمكانه الخروج معلناً أن من يسمّى وفق الأكثرية لتولي رئاسة الحكومة، لا يمثّل البيئة السنية، لأن هؤلاء وصلوا إلى مجلس النواب بناءً على انتخابات وفق القانون النسبي، وهذا يعني أنهم يمثلون بيئتهم.



الخسارة الموصوفة
تشير أرقام انتخابات عام 2009 إلى أن التصويت السنّي كان لا يزال في أوجه، ومردّ ذلك إلى جملة أسباب، أهمّها التأييد الكبير الذي كان يتمتّع به الرئيس سعد الحريري شخصياً ومن ثم تياره. وهذا الواقع بدأ يتبدّل تدريجياً منذ عام 2012، وبلغ ذروته في السنوات الأخيرة، حتى تُرجم في صناديق الاقتراع في الانتخابات الأخيرة. ففي مقارنة بين أرقام 2009 و2018، يتضّح حجم التراجع في العاصمة. فقد نال مرشّح تيار المستقبل آنذاك الوزير نهاد المشنوق في دائرة بيروت الثانية 16.583صوتاً، حيث بلغت نسبة الاقتراع 27.3 في المئة، إذ كانت تسوية الدوحة تشمل انتخابات هذه الدائرة التي لم تشهد معركة تُذكر. أما في بيروت الثالثة فقد حصد الحريري 78.382 صوتاً من أصل 103.243 مقترعين (الفائز الأخير على لائحته نال نحو 76 ألف صوت). بحسبة بسيطة، فإن الدائرتين الثانية والثالثة، اللتين باتت غالبية أحيائهما تشكل دائرة بيروت الثانية في انتخابات 2018، سجّلتا أكثر من 92 ألف صوت للائحة تيار المستقبل وحلفائه عام 2009، في مقابل 62 ألف صوت حصلت عليها لائحة «المستقبل» هذا العام. وبالتأكيد، لا يمكن إحالة التراجع بنحو 30 ألف صوت في العاصمة إلى الجماعة الإسلامية التي كانت متحالفة مع الحريري قبل 9 سنوات، إذ لم ينل مرشحها، عماد الحوت، سوى 3938 صوتاً في أيار 2018. هذه الخسارة الحريرية الموصوفة، قابلها تقدّم خصومه السنّة، أو على الأقل، ثباتهم على ما كانوا عليه. هنا تحديداً يكمن شعور الحريري بالقلق.