ما الغاية من الإصرار على ترشيح لبنانية إلى منصب الأمين العام المساعد للاتحاد المتوسطي في مقره برشلونة، عندما يكون الاتحاد أحد دواوين التطبيع مع إسرائيل؟السؤال يطرح نفسه كلما استجدت مبادرات أوروبية تضم العرب إلى إسرائيل في تجمع إقليمي واحد سيق إليه ٤٣ بلداً، تغيب عنها دوماً المبررات المقنعة باستثناء تحقيق مكاسب مناصبية لا جدوى منها. لكن السؤال يبدو أكثر إلحاحاً عندما يتعلق بـ«الاتحاد من أجل المتوسط» الذي تقوم فلسفة إنشائه - من بين أهداف أخرى جيو استراتيجية وأمنية أوروبية بالدرجة الأولى - على الذهاب من دون انتظار أي حل سلمي لن يأتي، إلى التطبيع بين العرب وإسرائيل، تحت شعارات التنمية المستدامة، والتعاون الإقليمي بين الشمال والجنوب، ومكافحة التلوث، وتطوير مشاريع مشتركة كثيرة، من بينها ربط دول الحوض المتوسطي بشبكة من الطرق والسكك الحديدية شرقاً وجنوباً، على اعتبار أن التعاون سيكون كافياً حكماً لحل كل المشاكل السياسية.
وليس مبالغة القول إن لبنان الرسمي يعود مع هذا الترشيح إلى اختبار التطبيع البارد تحت غطاء المشاركة في واحدة من أكثر التجمعات الإقليمية الأوروبية - العربية عملاً على تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعرب، واقتراح التعاون بين المحتل، وبعض من الدول التي لا تزال تحتل إسرائيل جزءاً من أراضيها. كان لبنان قد اختبر في ذروة الحماسة لفرنسا نيكولا ساركوزي، الاتحاد من أجل المتوسط، في صيف 2008، وكيف تتحول مبادرة دبلوماسية - تقدم بها لبنان مرشِّحاً في لحظة التأسيس بيروت مقراً لمركز البحوث العلمية المتوسطية - إلى فخ سياسي، بعد أن تبين أن مديره لن يكون سوى الإسرائيلي المساعد للأمين العام للاتحاد. وليس صدفة أنه منذ لحظة تأسيسه، كان التطبيع يسري في شرايين من أشرفوا على أمانته العامة، وقد جاؤوا من بلدان عربية تعقد اتفاقات سلام مع إسرائيل، كالأردن ومصر، أو تقيم علاقات مفتوحة لا حاجة إلى اتفاق حولها كالمغرب، الذي غادر ممثله الأخير فتح الله السجلماسي، أمانة الاتحاد في آذار الماضي.
ليس مبالغة القول إن لبنان الرسمي يعود مع هذا الترشيح إلى اختبار التطبيع البارد


اعتبارات كثيرة قد تكون أدت في النهاية إلى إبطاء وربما تعطيل آليات التطبيع المرجوة. ولكن ذلك لا يغير شيئاً في وظيفة الاتحاد من أجل المتوسط، من بين وظائف أخرى، كان الرئيس ساركوزي يدفع بها، ومن خلفه بعد عام من دخوله الإليزيه في ٢٠٠٨، مستشاره وكاتب خطبه هنري غينو. وغينو هذا الذي حمل مشروع التعاون المفترض بين ضفتي المتوسط، كاتب ذلك الخطاب الفضيحة، الذي عرف بخطاب «داكار» وضمنه فيه عبارته البائسة «عن عجز الإنسان الأفريقي عن دخول التاريخ». لكن الاعتبارين الرئيسيين اللذين حكما مسيرة الاتحاد الذي يرجو لبنان اليوم أمانته العامة قبول مرشحته مساعدة للأمين العام للنقل والتنمية الحضرية، يعود أولهما إلى محاولة فرنسا استخدام الاتحاد لإنشاء كتلة جنوب أوروبية ومتوسطية، توازن الثقل الألماني كما توجُّهَ ألمانيا نحو شرق أوروبا، مجالها الحيوي تاريخياً، وإلى دول البلطيق.
كان طموح الرئيس ساركوزي، وهو يستقبل رؤساء القمة المتوسطية الأولى في القصر الباريسي الكبير في الثالث عشر من تموز ٢٠٠٨، أن يغدو هؤلاء كتلة تعكس النفوذ الفرنسي في مواجهة الهيمنة الألمانية في قلب الاتحاد الأوروبي نفسه. لكن حقائق قصر ذات اليد لتمويل التجمع - يزعم مد دول المتوسط على ضفافه الشرقية والجنوبية بجسور التواصل والشراكة المباشرة اقتصادياً وسياسياً - أنزلت الرئيس الفرنسي إلى أرض الواقع، ووافق على إدخال أنجيلا ميركل إلى الاتحاد، التي اشترطت لتمويله أن يضم حتى دول البلطيق، في أقصى الشمال الأوروبي، ومعها دول الاتحاد الأوروبي بأسره، وحولت ما كان حلماً بريادة كتلة متوسطية في مواجهة ألمانيا، إلى ناد فضفاض يرتاده سواء بسواء، ومن دون تمييز من وضع قدماً في المتوسط الدافئ أو جليد البلطيق.
أما الاعتبار الثاني فمرتبط بالزعم الأوروبي أنه لا بد من تعزيز الاستقرار الاقتصادي والأمني في دول المتوسط الجنوبية والشرقية، باعتبارها منطقة عازلة مع فضاءات الفقر المدقع، خصوصاً في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وكشف الكاتب جان كريستوف روفان، عام ١٩٩٥، في مؤلفه «الامبراطورية والبرابرة الجدد»، عن الرؤية الغربية السائدة لواقع العالم اليوم. قسّم روفان العالم إلى ثلاثة أقسام: الامبراطورية، أي دول الاتحاد الأوروبي ومناطق الرخاء الاقتصادي والغرب عامة، تليها التخوم العازلة في شمال أفريقيا، والبرابرة أي جمهرة الشعوب الفقيرة جنوب الصحراء. خص «روفان» بلدان التخوم بوظيفة الحاجز الذي يمنع تدفق جحافل الفقر نحو جزر الثراء الفاحش في الامبرطورية. جاء الاتحاد من أجل المتوسط، ترجمة لرؤيا هذا الكاتب الذي عينه ساركوزي سفيراً له في السنغال آنذاك. سعى الاتحاد إلى التعاون مع دول التخوم، لا سيما ليبيا، لاحتواء موجات الفقراء المتدفقة من قلب أفريقيا عبر طرق الصحراء إلى مياه المتوسط، وأساطيل الزوارق إلى شواطئ إيطاليا واليونان، ومنها إلى بقية الدول الأوروبية. لكن تلك المقاربة لم تعمر أكثر من عام واحد، إذ تحولت السياسة الأوروبية نفسها، خصوصاً الفرنسية منها، إلى سياسة عدوانية وهجومية بعد عام واحد تماماً من مؤتمر «القصر الكبير». وقاد الفرنسيون عملية فجر الأوديسا، التي افتتحت تدمير ليبيا، وزعزعة التخوم، وإسقاط الحاجز ما بين الصحراء وأوروبا.
سوأل آخر يحضر في معنى الترشيح اللبناني من خارج السلك الدبلوماسي أو جهاز الدولة إلى تجمع إقليمي ملتبس ومعقد، في أن اختيار الترشيح من أفراد داخل نخبة معولمة يدفع إلى السؤال عما إذا كان المرشح سيمثل بلاده أم أنه سيكون وديعة الآخرين لدينا، كما حال الكثيرين من أبناء تلك النخبة.