لم يقتصر إنجاز المقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 على أنها صنعت تاريخاً، بل تصنع الحاضر وتحميه، وهي تشكل بطاقة تأمين وأمان للمستقبل. وقد يكون الحفاظ على التحرير، في وجه عدو كالإسرائيلي، أخطر وأشد صعوبة من إنجازه، الذي كان في حدّ ذاته إنجازاً غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي ــــ الإسرائيلي.يعدّ إنجاز الألفين مفصلاً استراتيجياً وتأسيسياً في ميزان القوة بين إسرائيل ولبنان، ليس فقط على صعيد القدرة على مقاومة الاحتلال واستنزافه ومنعه من إحكام سيطرته على الأرض اللبنانية، وصولاً إلى دحره، بل باتجاه القدرة الدفاعية (نموذج 2006)، وتناميها من عام 2011 إلى الآن في الميدان السوري، إلى الحد الذي باتت معه المقاومة قادرة على المواجهة الاستباقية، بمعان هجومية دفاعية.
ضمن هذه المفاصل الثلاثة، يأتي اندحار إسرائيل عام 2000 نتاج مسار تراكمي حققته المقاومة في معركة استمرت سنوات، وشهدت استنفاد إسرائيل كل خياراتها الممكنة.
في ذلك الحين، لجأت إسرائيل إلى سياسة الاغتيالات، بدءاً باغتيال القادة؛ على رأسهم الشيخ راغب حرب والسيد عباس الموسوي، والعديد من الكوادر القيادية الميدانية، مروراً بخوض المعارك التقليدية المباشرة مع المقاومين، كما حدث في معركة ميدون عام 1988 نموذجاً، وصولاً إلى استهداف المدنيين وتهجيرهم بهدف تأليبهم على المقاومة (حربا 1993 و1996).
انشغال إسرائيل في حماية احتلالها لأجزاء من الجنوب اللبناني، حوّل الاحتلال نفسه إلى عبء على الكيان الإسرائيلي قيادة وجمهوراً وجيشاً، بحيث بات سبباً إضافياً للاستنزاف الأمني لشمال فلسطين المحتلة نتيجة السياسة الصاروخية الردعية التي اتبعتها المقاومة رداً على كل تجاوز إسرائيلي لخطوط حمر محددة، ما أدى إلى أن يتحول «الحزام الأمني» من عامل تأمين لشمال إسرائيل إلى مصدر تدهور أمني.
بعد هذا المخاض، وجدت القيادة الإسرائيلية نفسها أمام خيار من اثنين: إما استمرار تلقي الضربات، مع قيود فرضتها معادلة الردع التي نجح حزب الله في فرضها على إسرائيل، أو الانسحاب من دون قيد أو شرط، وخاصة أن خيار التوسع الجغرافي بات محذوفاً من جدول أعمال إسرائيل نتيجة الأثمان التي كانت المقاومة تكبّدها لها يومياً من خلال عملياتها التي لم تتوقف طوال سنوات الاحتلال. وعلى ذلك، دُفعت إسرائيل دفعاً إلى قرار «الانسحاب»، وهو المصطلح الذي يقنع عملياً الاندحار الإسرائيلي، الذي لم يستطع حتى الالتزام بالموعد الذي حدده رئيس الحكومة في حينه إيهود باراك، في تموز عام 2000.
تجربة القتال في سوريا، بدلاً من أن تؤدي إلى استنزاف حزب الله، أدت إلى نتائج لم تكن لتخطر على بال صنّاع القرار في إسرائيل


من اللحظات الأولى للتحرير، أدركت قيادة المقاومة أن إسرائيل ستحاول بكل الوسائل أن تحطم النموذج البديل الذي قدمته للشعوب العربية عامة والشعب الفلسطيني خاصة، باعتباره النموذج الأنجع في تحرير الأرض دون أثمان سياسية و/أو أمنية. على هذه الخلفية، بدأت الاستعداد للحرب المقبلة التي كانت قيادة المقاومة تدرك أنها آتية لا محالة، وجاءت التطورات الإقليمية لاحقاً، ومن بينها الاحتلال الأميركي للعراق ومن ثم الخروج السوري من لبنان، لتنضج ظروف عدوان عام 2006.
الحرب في حينه كانت حرباً من نوع جديد تخوضها المقاومة، ليس باتجاه استيعاب الاحتلال ومن ثم استنزافه، بل تجلى فيها تطور دور المقاومة، وهو الأمر الذي عملت عليه قيادة حزب الله منذ انتقال الواقع الميداني من تحرير الأرض من الاحتلال إلى حمايتها منه، وهو نموذج غير مسبوق في معادلات الصراعات، إذ المألوف أن المقاومة تحرر الأرض بأساليب حرب عصابات، لكنها غير قادرة على الدفاع أو الدفاع الصدّي. المفاجأة أن المقاومة، في طابعها الثاني الدفاعي ما بعد التحرير، نجحت في تقديم نموذج بديل لحماية الأوطان عبر المواجهة المباشرة مع عدو، متفوق على المستوى العسكري والإمكانات المحيطة بقرار حربه واعتداءاته.
المحطة الثالثة التي تأسست أيضاً على إنجاز عام 2000، هي التجربة التي خيضت في القتال السوري ضد الجماعات التكفيرية على اختلاف أنواعها. هذه التجربة، بدلاً من أن تؤدي إلى استنزاف حزب الله وإضعافه، أدت إلى نتائج لم تكن لتخطر على بال صنّاع القرار السياسي والأمني في إسرائيل، فساهمت في تطوير القدرات الهجومية بما يخدم استراتيجية الردع والدفاع في وجه العدو. وإذا استندنا إلى إقرار العدو نفسه، الذي بدأ من ناحية فعلية التخطيط والتنفيذ لمواجهة سيناريوات توغل المقاومة في الأرض الفلسطينية رداً على اعتداء إسرائيلي واسع على لبنان، فهو إقرار بأن المقاومة بلغت فعلياً هذه القدرة، التي كان مجرد افتراضها في عام 2000 ضرباً من ضروب الخيال.
بعد 18 عاماً من التحرير، لم يعد الشعب اللبناني والشعب الفلسطيني وربما شرائح واسعة من العالم العربي تحتاج إلى استدلالات، كي تثبت جدوى المقاومة في التحرير والدفاع والمنعة والردع، بل في ضوء تفتت العديد من الكيانات العربية والترهل الذي يشهده العالم العربي، باتت هذه الشعوب أحوج ما تكون إلى المقاومة من ذي قبل.
النتيجة التي أثبتها حزب الله في لبنان، في المراحل الثلاث، بدءاً من عام 2000 وطوال السنوات الـ 18 من حينه، أن المقاومة هي مفردة تساوي البقاء وتعنيه، في مقابل التراكض وراء العدو للتحالف معه.