الآن حان هذا الأوان بمفارقة مخيّبة. النواب الشيعة الـ 27 في فلك حركة أمل وحزب الله اللذين حسما خيار الرئيس نبيه برّي. يبقى على مناوئيه أن يعثروا أولاً على نائب شيعي خارج الثنائي كي يرشحوه.لهذا اليوم، نهار انتخاب رئيس المجلس، تقاليد اعتادها اللبنانيون منذ الاستقلال حتى الربع الأخير من الثمانينيات، ثم طمرتها حقبة اتفاق الطائف. منها أن رئيس الحكومة، في صباح جلسة الانتخاب، يذهب الى منزل رئيس السنّ ويجتمعان لبعض الوقت، ثم يصحبه في سيارته في موكب رسمي الى مجلس النواب كي يدخلا معاً، بعد تقديم مراسم تكريمية لحرس الشرف. يرئس رئيس السن الجلسة بكلمة يلقيها، ثم يدعو الى انتخاب رئيس المجلس. يعقبه خطاب الرئيس المنتخب، فكلمة رئيس الحكومة. من ثم يقصد الرئيس المنتخب ونائبه وهيئة المكتب رئيس الجمهورية الذي يهنئهم.
قد تكون واحدة من جلسات تاريخية لانتخاب رئيس المجلس، تلك التي عقدت في 21 تشرين الأول 1986، بانقضاء تسعة أشهر على قطيعة ضربت أركان الحكم بعضهم ببعض، بين الرئيس أمين الجميل ونصف وزراء الحكومة المسيحيين، والرئيس رشيد كرامي والنصف الثاني من وزرائها المسلمين بعد تقويض «الاتفاق الثلاثي».
في الجلسة، خاطب رئيس السن الرئيس كميل شمعون الرئيس كرامي بالقول: «نحن اليوم اجتمعنا لانتخاب الرئيس العتيد. ثم إن دولة الرئيس رشيد كرامي وجّه إليّ بعض الانتقادات. أقول له بكل بساطة إنني أتقبّل هذه الانتقادات وقد عملت بموجبها. لكن ليسمح لي الرئيس كرامي بأن أقول له: أيها الطبيب طبّب نفسك. قيل عنك إنك أستاذ في السلبية، وهذا ما لا نرضاه بسبب علاقاتنا الشخصية والعامة في خدمة المصلحة العامة».
بعد انتخاب الرئيس حسين الحسيني، طلب كرامي الكلام وتوجّه الى شمعون: «نعم، يا فخامة الرئيس، أنا أستاذ في السلبية».
ثم أضاف: «إنني في سلبيتي التي أقف فيها في وجه كل السلبيات التي تقوم من هنا أو هناك، لأنني أريد أن أؤكد كذلك أن هذا النهج هو الذي أوصل هذا البلد الى ما نشكو منه جميعاً».
كان الرئيس السابق للجمهورية أحد ثلاثة رؤساء سن تاريخيين عرفهم مجلس النواب منذ الاستقلال حتى رحيله عام 1987. أضحى رئيساً للسن 6 مرات. تقدّم عليه جورج زوين 13 مرة ما بين عامي 1943 و1987، ثم يوسف الزين 8 مرات. ما بين عامي 1972 و1987 تساوى مع موريس ابن جورج زوين ووارثه 6 مرات، ومن بعدهم موسيس ديركالوسيان 4 مرات، خالد شهاب 3 مرات، سامي الصلح مرتين، الى مرة واحدة لكل من أحمد الحسيني ويوسف هراوي وعادل عسيران وكاظم الخليل. حتى اتفاق الطائف، كانت ولاية رئيس المجلس سنة واحدة، يُنتخب في تشرين الأول في بدء العقد العادي الثاني.
في حقبة ما بعد انتخابات 1992، تعاقب على رئاسة السن قبلان عيسى الخوري (1992 و1996 و2000) وإدمون نعيم (2005) وعبد اللطيف الزين (2009). رئيس السن اليوم هو النائب ميشال المر (86 عاماً)، يفترض أنه سيرئس جلسة انتخاب رئيس المجلس بعد 20 أيار. بيد أن البعض أشاع أخيراً أن الرجل ـــ المنوط به تحديد موعد جلسة الانتخاب وترؤسها ـــ هو رئيس غير مطوَّب للمجلس في الأيام القليلة ما بين 20 أيار وموعد جلسة الانتخاب في اليومين التاليين. توسّعت الأقاويل كي تقول إنه رئيس للسن منذ 20 أيار الى أن يسلّم المطرقة الى الرئيس المنتخب. تالياً يسعه أن يتصرّف كما لو أنه كذلك، وترؤس هيئة مكتب المجلس الحالية في ما تبقى لها من نهاية الولاية.
في هذه الآراء كثيرٌ من المبالغة والمغالاة وعدم الدقة. له وحده تحديد موعد جلسة الانتخاب. لكن ليس له ترؤس هيئة المكتب التي لا يزال لها رئيسها ـــ وهو برّي ـــ حتى 20 أيار. إلا أنه لا هيئة مكتب بعد هذا التاريخ مع بدء ولاية المجلس المنتخب. تالياً، فإن هيئة المكتب الحالية قائمة برئيسها حتى 20 أيار. أما النائب الأكبر سناً، فلا يمسي رئيس السن إلا عند التئام البرلمان، في الوقت القصير المحدد لانعقاده فحسب.
أول مأزق دستوري جدّي جبهته رئاسة المجلس كان في تشرين الأول 1988. حان موعد انتخاب الرئيس. يومذاك قاطع النواب المسيحيون ونواب مسلمون يقطنون في «بيروت الشرقية»، ناهيك بموانع ميليشيا القوات اللبنانية حينذاك عند خطوط التماس، انتخاب الحسيني في ساحة النجمة. كانت البلاد قد دخلت لشهر خلا في شغور رئاسي هو الأول في تاريخها. فإذا الشغور ضرب الرئاستين، الأولى بانتهاء ولاية الجميل، والثانية بتعذّر انتخاب رئيس للبرلمان، بينما ثمة حكومتان تتنازعان برئاسة الرئيسين سليم الحص وميشال عون. صعدت حينذاك أصوات تقول بحلول رئيس السنّ، كاظم الخليل القريب من الفريق المناوئ لسوريا، محل الحسيني ما دام رئيس المجلس لم يُنتخب، وتفادياً للشغور في برلمان مدعو الى انتخاب رئيس للجمهورية. كانت تلك المرة الأولى يُحاط برئيس السن أول سوء تفاهم ناجم عن تفسير دوره.
كان الحسيني قد توقّع مشكلة مماثلة قبل سنة، من دون أن تكون ثمة مؤشرات الى شغور رئاسي في أيلول 1988. في 30 أيلول 1987، كتب الى الدكتور إدمون رباط يسأله رأيه في ما قد ينشأ عن عدم انعقاد مجلس النواب لانتخاب رئيسه وأعضاء هيئة المكتب، كما عن دور رئيس السن الذي يرئس تقليدياً جلسة الانتخاب.
في 5 تشرين الأول، أجابه رباط أن «ظهور رئيس السن، المحدّدة هويته في المادة 44 من الدستور، إنما لا يتم إلا بالترابط ترابطاً عضوياً مع انعقاد الجلسة الأولى أو الجلسات التالية». يضيف ان رئيس السن «ليس ركناً من الأركان الدستورية للنظام»، وإن الدستور ينص على دوره الموقت والانتقالي.
فتوى رباط: عندما يكتمل نصاب الجلسة فحسب، ينشأ كيان رئيس السن


يقول في رأيه، الوارد في مجموعة اجتهاداته التي نشرها مجلس النواب قبل سنين: «التمعن في نص المادة 44 كافٍ لإحكام التمعن في تفسيرها. يقول النص إنه في كل مرة يجدد المجلس انتخابه، وعند افتتاح عقد تشرين الأول، يجتمع المجلس برئاسة أكبر أعضائه سناً (...) النص يفرض إذاً أن يجتمع المجلس. لا ريب في أنه لا اجتماع قانونياً إلا إذا توافر النصاب المحدد في المادة 34. النتيجة المنطقية الحتمية لهذا الشرط، أن رئيس السن لا يظهر الى الوجود، ولا يتألف بالتالي كيانه الدستوري إلا إذا توافر هذا الشرط».
يتطرق الى النائب الأكبر سناً بالقول: «قد يكون هذا النائب مسافراً أو مريضاً، فيحلّ محله عندئذ مَن يتبعه في السن. من بداهة القول إن هذا النائب الأكبر سناً ـــ إذا كان حاضراً بين زملائه ـــ تعود إليه عفواً رئاسة السن. يكفي أن يكون حاضراً في القاعة».
يختم رباط رأيه: «لا يستطيع رئيس السن أن يظهر الى الوجود بصفته هذه إلا انبثاقاً من الجلسة المعقودة انعقاداً قانونياً، بنصابها المحدد دستورياً. تزامناً مع هذه الجلسة، حتى إذا لم تنعقد بنصابها، استحال ظهور رئيس السن ظهوراً دستورياً».
بذلك، فإن القاعة تصنع رئيس السن، لا المنصب غير الموجود في الأصل.