على مقربة من المدرسة الرسمية في حراجل (جرد كسروان)، يجلس ناخب سبعيني أمام فرن المناقيش يراقب حركة الناخبين. لا يبدي الرجل حماسة للمشاركة في العملية الانتخابية. بالنسبة إليه «لو بدها تشتي كانت غيّمت. فلو كان لهذا البلد قدر بأن تكون له دولة تخدم مواطنيها، لتمّ ذلك منذ زمن. ما بدأه الرئيس فؤاد شهاب لم يكمله أحد، كان هناك أمل مع بشير الجميل، لكنه قُتل، تأمّلنا خيراً بالجنرال، وما زلنا ننتظر». أكثر ما قد يستفزّ الرجل للمشاركة هو ترشيح حزب الله لائحة له في كسروان – جبيل، يقول «كسروان طول عمرها للموارنة، لقد حميناها بدمائنا، ولم نسمح لأحد بأن يدخل جرودنا، بدن يجوا المتاولة يفوتوا لعنا؟ لكل منطقة خصوصيتها وعلى كل طرف احترامها».ما يقوله الرجل السبعيني، يعبّر ربّما عن رأي كثيرين في تلك الدائرة، وهو نموذج لما قد نراه في مناطق لبنانية غالبية أهلها من المسلمين. لا لشيء سوى أن هذه هي تركيبة المجتمع اللبناني، طائفية بامتياز، يحكمها خوف من الآخر، تعزّزه أدوات النظام القائم. لكن اللافت أن هناك من يرى في حزب الله ما يشبهه. يقول الياس «من نحن ومن حزب الله؟ على العكس، في المرّة المقبلة على اللائحة أن تكون أقوى وأن يكون فاعلاً في شكل أكبر. نحن في خطٍ واحد معه ضد الإرهاب الداعشي والإسرائيلي. لو أنه أعلن عن لوائحه مبكراً، قبل التزامنا بلوائح أخرى، لكنت انتخبت لائحته. إنهم شرفاء!». يختلف شربل برأيه، بالنسبة إلى ابن جونية «للشيعة حضور، وهم من نسيج المنطقة الاجتماعي، ولهم حقّ في تأليف لائحتهم»، لكن ماذا عن إمكان التصويت لهذه اللائحة؟ يردّ شربل «لدي مرجعيتي الخاصّة، أصوّت لهم في حال كنّا في لائحة واحدة، ولكنّهم ليسوا خياري الأول». في المقابل، يكتفي بيار من زوق مكايل بالتعليق على ترشّح ابن بلدته كارلوس أبي ناضر على لائحة حزب الله: «جبلنا البرص!».
الوضع في جبيل أقل حدّة. هناك قبول للشيعة بحكم العلاقات الاجتماعية المتشابكة بين القرى الجبيليّة، إلا أن المال الانتخابي وحجز البطاقات والتجييش الطائفي لعب دوره في التأثير على نسبة المشاركة، في حين لم تتّكل لائحة الوفاق الوطني إلا على لحمها الحيّ. يقول أحد الناخبين في مدينة جبيل: «نحن أهل، اليوم تنتهي المعركة، وغداً نكمل العيش معاً. جبيل تنتخب بالسياسة لا بالطائفة. هذا نهج رُسي منذ أيام ريمون إده، وهو مستمر».
لانتخابات 2018 النيابية رمزيتها في كسروان، عدا عن أنها تحلّ بعد تسع سنوات على آخر انتخابات نيابية وبعد ثلاثة تمديدات للمجلس النيابي، تأتي بعد أن وصل زعيمها ونائبها لأكثر من عقد إلى سدّة الرئاسة بدعم أساسي من حزب الله، في حين يخوض تيّاره الاستحقاق منقسماً على نفسه، ومتحالفاً مع قوى بارزة في المنطقة اصطف ضدّها لأعوام، ومتخلّياً عن الحليف الاستراتيجي (حزب الله). وهو خيار اعترف رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل قبل يومين من الاستحاق بأنه خطأ تكتيكي.
في الواقع، أساس هذا الخطأ التكتيكي هو حسابات التيار الوطني الحرّ نفسها. تشير مصادر الأخبار إلى أن «جزمه بالحصول على حاصلين في جبيل بقوّته الذاتية، دفعه إلى التخلّي عن حزب الله كي لا يقاسمه الحصة. ولم يعلن التيار خياره إلا قبل أيام من الانتخابات، معوّلاً على عدم لجوء الحزب إلى التحالف مع غيره، وتجيير أصواته له في النهاية»، إلا أن مفاجأة حزب الله كانت بلجوئه إلى تحالف أقليات: شخصيات تقليدية وحزبيون سابقون وأحزاب اليمين المسيحي المضعضعة، مهّد لهم تحالف مار مخايل قبل 12 عاماً. «قبل التحالف ما كان لأي مسيحي أن يتجرأ على القيام بخطوة مماثلة، وما كان حزب الله ليفكّر في ذلك أساساً».
وتتابع المصادر: هدف حزب الله الأساسي هو «إقفال بيئته، فهو لا يريد عقاب صقر ثانياً، فيما يتعرّض لتضييقات خارجية إضافية ويواجه عقوبات جديدة. إلا أن تخلّي التيار الوطني الحرّ عنه في معركته الجبيلية لن يدقّ مسماراً في نعش تفاهم مار مخايل. بالنسبة إليه ميشال عون هو ضمانة، ورئيس قوي لا يحتاج إلى من يدافع عنه، بل هو قادر على تشكيل سند للمقاومة، فهو ليس شبيهاً بميشال سليمان، فضلاً عن أنه يريد ملاقاة شارعه وتأمين متطلباته الاجتماعية والاقتصادية أيضاً».
هدف حزب الله الأساسي «إقفال بيئته» فهو لا يريد عقاب صقر ثانياً فيما يتعرّض لتضييقات خارجية


أبرز من دعم حزب الله في معركته هم الوزير السابق جان لوي قرداحي مدعوماً من روجيه إده (وجه 14 آذاري بارز ومعروف بمواقفه المناهضة لحزب الله) وقدامى الكتائب وطنوس قرداحي (يعدّ من أبرز القياديين الكتائبيين في جبيل، فصل منذ أسبوعين من حزبه)، قدامى التيار الوطني الحرّ المفصولون أو المستقيلون منه، وقدامى القوات، يضاف إليهم قوميون ومردة وأرمن. ما يجمع هؤلاء أمران: كلّهم قوى أقلوية، وكلّهم كانوا قريبين من التيار الوطني الحرّ.
يقول جوزف الزايك (قدامى القوات) إن «أقلية اقتنعت بالتصويت للائحة، وفي كسروان كانت المعضلة أكبر من جبيل بسبب غياب الاختلاط الاجتماعي، ولكن هناك من اقتنعوا ومشوا، وهم قدامى المقاتلين الذين حاربوا في أحزابهم، ثم تُركوا لمصيرهم مع إعاقات دائمة أو من دون أي سند». ويتابع الزايك: «العماد ميشال عون هو زعيم للمسيحيين، ويمثلنا ولسنا على خلاف معه، وفي دورتي 2005 انسحبت من المعركة الانتخابية ودعمته بما لديّ من أصوات. في 2009 أعاد تأليف اللائحة نفسها التي ترشّح معظم أعضاؤها اليوم في لائحة مواجهة للتيار، ولكننا أيضاً انسحبنا ودعمناه». ويضيف الزايك «ما يجمعنا بحزب الله كثير، تجمعنا الشهادة من أجل قضية. نحن أكثر من يفهم حزب الله، وهم أكثر من قد يفهمنا. شباب كسروان استشهدوا في شكا والبترون والأسواق من أجل لبنان، كما يستشهد شباب الحزب في سوريا لردّ الإرهاب. لا يوجد دم بيننا وبين حزب الله، الأساس هو التلاقي ومعرفة الآخر، لأننا مقتنعون بعد تجارب فاشلة بأن هذا البلد لا يقوم من دون أبنائه كلهم». لا يختلف قرداحي في دوافعه عن الزايك. بالنسبة إليه المعركة هي «لتثبيت العيش المشترك في جبيل، ورفض عزل المكوّن الشيعي، ومواجهة أي تفكير انعزالي شبيه بما كان سائداً خلال الحرب اللبنانية»، ويضيف قرداحي «الحياة السياسية لا يمكن اختصارها بالمحازبين فقط، هناك شخصيات موجودة، ولديها رأيها، ونحن نناضل دفاعاً عن استقلالية رأينا وحرية موقفنا».