لطالما تناولت الدراسات، حول العالم، الأوضاع الاجتماعية وانعكاسها على نوعية الغذاء. وبينت أن الطبقات الميسورة تحصل على نوعية غذاء أفضل، فيما يترك للفقراء الجوع او الغذاء الرديء.ولكن، مع التقدم الهائل والسريع، نجحت الشركات، بذكاء كبير، في محو «الطبقية الغذائية» وفي ترسيخ المساواة الزائفة. وبات في إمكان الاهل إرضاء اطفالهم بمدخول يومي قليل جداً، لا يتعدّى دولاراً واحداً، لشراء ثلاث سلع هي الارخص، ولكنها الأوسخ والأكثر انتشارا في العالم: رقاقات البطاطا المقلية (التشيبس) والمشروبات الغازية والسكاكر على انواعها...
هذه السلع تشعر الطفل بالرضا الوهمي مما يخفف من شعوره بالحرمان، لكن الأهم أنها تعطيه شعوراً زائفاً بالشبع. وهي، في الوقت نفسه، تعطي الأهل شعوراً زائفاً بتخفّفهم من عقدة الذنب. إذ يشترون رضى أولادهم بثمن قليل. مع العلم أن كلفة «زوّادة» الغذاء السليم لأطفالنا، مثل التفاح أو الموز والجوز والزبيب ولفافة الزعتر والزيت... لا تزيد كثيراً (او أبداً) عن كلفة الغذاء المزيف.
كثر من الاهل يعرفون هذه الحقائق، لكنهم لا يقدمون على كسر هذه الحلقة الاستهلاكية الجهنمية. الأسباب عديدة، اقتصادية واجتماعية ونفسية. ففي ظل أوضاع مأزومة، تبدأ بظروف السكن والعمل ولا تنتهي بالظروف الامنية والسياسية غير المستقرة، لن يكون سهلاً التغلب على المغريات التي تفرضها الاعلانات والمنتجات البراقة المعروضة في الأسواق وفي دكاكين المدارس.
العادات الغذائية السيئة مرتبطة بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ايضا. وهي تتغذى من بعضها بشكل ارادي او غير ارادي. فالحالة غير المستقرة في التعليم وفرص العمل، وحالات الطوارئ السياسية والاجتماعية التي يعيشها المواطن في القطاعات الاساسية كافة، كمثل عدم الثقة بمياه الشرب والاضطرار لشراء المياه المعبأة، او عدم كفاية مياه المصالح والاضطرار لشراء مياه الصهاريج، وعدم تأمين الكهرباء والاضطرار للاشتراك في المولدات الخاصة، والشكوك حول الأغذية التقليدية وسلامتها وفي النظام السياسي والإداري وفساده… كلها مؤشرات تدفع الى الاتكال على الرضى الفوري والسريع (الغذاء المزيف السريع) وعدم التفكير بالصحة على المدى الطويل.
أضف الى ذلك، نجاح الشركات الكبرى في التسلل الى عقول أطفالنا وتمكّنها من فرض عادات غذائية عليهم، عبر كل الوسائل من دون وازع، مستغلة غزيزة الـ«بزنس» لدى أصحاب المدارس. فبعض المدارس تلزم الطلاب بشراء القرطاسية، لا سيما مفكرة الطالب الخاصة، من المدرسة وليس من السوق. هذه المفكرة التي يفترض أن يدون الطالب عليها برامجه ونشاطاته اليومية لكي تبقى في ذاكرته، بات الكثير من صفحاتها يُستخدم لتسويق منتجات السكاكر والحليب ورقاقات البطاطا… الرخيصة والمضرّة. وهذه هي اللعبة الأخطر التي تتواطأ فيها المدرسة مع التجار والمسوقين، ومن دون وعي مع الأهل والتلاميذ ايضاً. فيصبح الغذاء الزائف والرخيص جزءاً من ذاكرة التلميذ ووجدانه وحياته اليومية الحميمة!
بعد هذا، هل هناك من يسأل لماذا لا يهتم المواطن (الناخب في هذه الأيام) بمطالبة المرشحين بنظام صحي وغذائي وبيئي افضل او بديل، مكتفيا بمطالب طارئة لوضعه الطارىء، مثل دفع قسط مدرسة او وعد بخدمة او وظيفة؟! من يهن عليه تقديم الغذاء الزائف لاولاده يهن عليه التمثيل النيابي الزائف، وتهن عليه حياته غير الطبيعية في كل المعايير.