يدق الجرس معلناً نهاية الحصة الدراسية. يتهافت الصغار على دكان المدرسة الخاصة محدثين ازدحاماً شديداً عند بابه. تقع عيونهم على ما يظنونه أشهى من زوّادتهم. يعرض الدكان، بشكل مغرٍ، أصنافاً متعددة، لكنها تفتقر إلى شروط الغذاء الصحي والنظافة في بعض الأحيان. في دكاكين مدارس كثيرة، أطعمة مكشوفة أو ملوّنة اصطناعياً و«جانك فود» ومشروبات غازية وعصائر محلاة وبوظة في عز الشتاء!لا يضمن كثيرون من الأهل أن يأكل أولادهم وجبة الغذاء التي يضعونها لهم في حقائبهم. المهمة تصبح أكثر تعقيداً مع طلاب المرحلة المتوسطة وما فوق. هؤلاء يخجلون من إحضار لفافة الزعتر أو الجبنة أو اللبنة مع ما تيسر من الفاكهة من البيت.
تحتار سناء، وهي والدة لتلميذين في الثالث والسادس أساسي، بين أن تقطع عن ولديها المصروف اليومي لتجنيبهما ما لا ترغب بإطعامهما إياه مع ما يسبّبه ذلك من إحراج لهما بين رفاقهما، وبين جعلهما عرضة لكل هذه الأصناف. أكثر ما يقلقها محتويات السلعة وتاريخا الإنتاج والصلاحية، «إذ يتبادل الأهالي في ما بينهم أحاديث عن منتجات في الدكاكين تخدم 3 أشهر فقط، وصفقات تعقد مع شركات أغذية لشراء سلع بأسعار أقل كون صلاحيتها قريبة من الانتهاء». أضف الى ذلك أن هناك مشكلة في طريقة عرض دكان المدرسة لـ«البضاعة»: «إذ توضع المأكولات غير الصحية، المُربحة في الغالب، في الواجهة، على حساب السندويشات الطازجة والفواكه والخضار والعصير الطبيعي. حتى المدارس التي توحي بأنها حريصة على تطبيق نظام غذائي متوازن للطفل تفعل الأمر نفسه».
تقدم كبير للمدرسة الرسمية لجهة تغير السلوكيات ونسب البدانة منذ بدء تطبيق برنامج الصحة المدرسية


قد يكون التعميم غير جائز هنا. ثمة مدارس استغنت بالكامل عن المأكولات غير الصحية، خصوصاً في دكاكين تلامذة المرحلة الابتدائية وحافظت عليها للكبار فقط، أو أنها منعتها عن الصغار والكبار معاً. لكن، بالنسبة إلى كارول، الأم لأربعة أولاد، النظافة أهم من التركيز على نوعية المنتج نفسه. إذ «ما النفع إذا استبدلت المدرسة المشروبات الغازية بالفواكه والخضار الطازجة، والسكاكر بالسلطات والسندويشات، في حال بقيت الموظفة نفسها التي تعدّ الطعام هي التي تستلم الأموال من الأولاد؟ وهل من يراقب نظافة هذه المنتجات ونوعيتها ومدى ملاءمتها للمواصفات الصحية؟».
بعض المدارس، لا سيما الخاصة منها وتحديداً في المراحل التعليمية المتقدّمة، فتحت، بحسب أحد أولياء الأمور، «سناكات» لبيع كل ما يمكن إدراجه في لائحة الـ«جانك فود». حين اعترض على الفكرة، جاءه الجواب من الإدارة بأن «الأمر اختياري. الأولاد يجدون في المدرسة كل ما يرغبون به ويستطيعون المفاضلة بين الخيارات المعروضة». لكنه يسأل: «هل من السهل منع ولد من شراء أطعمة يحبها؟ القصة نفسية».

بين التعليم والسلوكيات الغذائية
يقضي الطلاب بين ستّ وسبع ساعات يومياً في المدرسة حيث ينتظر أن يكتسبوا، إلى جانب التعليم، العادات والسلوكيات الغذائية السليمة. وإلا كيف يمكن تبرير التناقض بين ما يدرسه هؤلاء في مادة العلوم عن فوائد الأكل الصحي، وبين ما تعرضه عليهم كافيتريا المدرسة.
«إداراتنا تخوض معارك مع الدكاكين لاجبارها على الابتعاد عن كل الملونات والتشيبس والمشروبات الغازية وغيرها». هذا ما يؤكده الأمين العام للمدارس الإنجيلية نبيل القسطا. إلاّ أنّ المشكلة «هي في ما يتناوله التلميذ في البيت. كيف يطلب الأهل من المدرسة أن لا تبيع أولادهم منتجات يسمحون لهم بتناولها خارج المدرسة؟»، مشيراً الى أنّ التنسيق مع الأهل مطلوب، «مع الأخذ في الاعتبار أنّ الأكل الصحي سيكون أكثر كلفة»!

«بزنس» المأكولات الصحية
عام 2012، أصدرت وزارة التربية قراراً حدّد مواصفات المواد التي يمكن عرضها وبيعها في دكاكين المدارس والثانويات الرسمية لضمان وصول الغذاء الصحي والسليم إلى التلامذة. تطبيق برنامج الصحة المدرسية في المدارس والثانويات الرسمية، استغله أصحاب المدارس الخاصة رغم أنه غير ملزم لهم، لجني مزيد من الأرباح. فالانتقال من الـ«لا صحي» إلى «الصحي» يعني مزيداً من الـ«بزنس»، خصوصاً أن معظم مستثمري الدكاكين والكافيتريهات في المدارس الخاصة يكونون عادة من «أهل البيت»، على عكس المدارس الرسمية. فيما لا تطّلع لجان الأهل على أي تفصيل عن هذه الدكاكين التي لا يدخل تلزيمها ضمن الموازنات، ولا يعرفون إلى من تلزّم وكيف وبأي أسعار. كل ما يسمعونه أن العملية تجري «على الراس».
يؤكد مندوب مبيعات أن سعر كلفة البدائل الصحية ــــ كالخبز المحمص بدل التشيبس أو الـ«وايفر» بدل الشوكولا ــــ ليس أكثر ارتفاعاً، لافتاً الى أن تجار الجملة يعطون أسعاراً خاصة للمدارس عندما تكون الطلبيات كبيرة. رغم ذلك، يجري استغلال إصرار الأهالي على اعتماد الخيارات الصحية، حتى أصبحت أسعارها ضعف أسعارها الحقيقية. فتباع قنينة العصير الطبيعي بـ2000 ليرة، والعلبة الصغيرة من سلطة الفواكه بـ 1500 ليرة وعلبة الذرة بـ1000 ليرة.

نجاح في «الرسمي»
قد يكون من بين النجاحات القليلة لوزارة التربية تطبيق قرار تنظيم استثمار الحانوت في الثانويات والمدارس الرسمية وفرض المواصفات الصحية عليه وتقويم هذه المواصفات من خلال زيارات تفقدية دورية. وحدة التربية الصحية والبيئية في مديرية الإرشاد والتوجيه تشرف منذ العام الدراسي 2013 ــــ 2014 على ادخال القرار حيز التنفيذ من خلال منع المنتجات غير الصحية وتوفير البدائل للتلامذة. توضح مديرة الارشاد في الوزارة، هيلدا خوري، أنّ «البداية كانت صعبة واستلزمت منا وقتاً حتى نرسي مفاهيم سلامة الغذاء وأهمية تطبيق المعايير الصحية. لكن، اليوم باتت الاستجابة مقبولة، نظراً الى جدية المتابعة». فخلال الزيارات الدورية تنعقد، بحسب خوري، حلقات توعية للأساتذة والتلامذة، كما يجري إشراك الأهل في التشجيع على العادات الغذائية السليمة. وتبدي خوري ارتياحها لنتائج دراسة أجرتها الجامعة الأميركية بالتعاون مع الوزارة على عيّنة من الطلاب في المدارس الرسمية والخاصة منذ بدء تطبيق القرار أظهرت تقدم المدرسة الرسمية بشكل كبير لجهة تغير السلوكيات الغذائية وعدم حصول زيادة في نسب البدانة بين التلاميذ.

أطعمة مكشوفة أو ملوّنة اصطناعياً و«جانك فود» ومشروبات غازية وبوظة في عز الشتاء


ماذا عن باعة المأكولات المتجولين قرب أبواب المدارس في بداية الدوام ونهايته؟ تجيب خوري: «جرت محاولة لمنع هؤلاء. وهناك توجّه بالتنسيق مع وزارة الداخلية لعدم الترخيص لدكاكين في محيط المدارس».

مراقبة في المدارس الرسمية


في آلية تلزيم الحوانيت في المدارس والثانويات الرسمية، يطلب مدير المدرسة من طبيب القضاء الكشف على الحانوت وإبداء الرأي قبل حصول الحانوت على الشهادة الصحية. يملأ المرشد الصحي استمارة تقييمية أولى للتأكد من التزام الحانوت بنود العقد ويبلغها إلى لجنة الصحة المدرسية. ويؤمن المرشد المتابعة المستمرة التي تشمل تفقداً ميدانياً للحانوت ومراقبة العمل فيه مرة واحدة في الشهر على الأقل، وكلما دعت الحاجة، ويتابع المشرف الصحي في الوزارة من خلال زياراته الميدانية مراقبة حسن سير العمل ومدى الالتزام بالمواصفات.