«إن الفعالية الاقتصادية وتعزيز وحدة الأراضي يتطلبان ربط المدن اللبنانية بشبكة مواصلات فاعلة، تؤمن السرعة الفضلى للتنقل، ضمن شروط مقبولة بيئياً ومن ناحية السلامة العامّة. تقضي الأهداف الملحوظة لعام 2030، بألا تبعد أي مدينة أكثر من 100 دقيقة عن بيروت، وألا يبعد أي تجمّع ثانوي أكثر من 60 دقيقة عن بيروت، وألا يبعد أي تجمع سكني كبير أكثر من 30 دقيقة عن تجمع سكني كبير آخر (...) إن شبكة المواصلات المُقترحة تم وضعها لخدمة هذه الأهداف (تطوير الاقتصاد، توحيد الأراضي، تقريب المسافات بين المدن وبين المناطق، تسهيل نقل البضائع وانتقال الأفراد)، مع الأخذ بالحسبان القدرات المالية المحدودة للحكومة وللبلديات. إن القطاع الخاص يستطيع، من دون شك، إنجاز بعض البنية التحتية وتأمين عدد من الخدمات المربحة، غير أن الجهد الأساسي الواجب اعتماده يبقى على عاتق السلطات العامة، وهذا يفرض اعتماد نهج صارم في اختيار المشاريع»الجمهورية اللبنانية - الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية

يقدّر البنك الدولي الخسائر الاقتصادية من مشكلة زحمة السير في لبنان بما بين 8 و10% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً (نحو 5 مليارات دولار). في المقابل، تبلغ مساهمة قطاع النقل نحو 15% من إيرادات الخزينة العامّة، يجري تحصيلها من الضرائب والرسوم على المحروقات ومنافذ العبور الى لبنان والمطار وتسجيل المركبات ورخص السوق والمعاينة الميكانيكية. يقوم نظام تنقل الأفراد على استعمال السيارة الشخصية، في ظلّ غياب شبه تام لنظام نقل مشترك فعّال في المدن الكبرى وبين التجمّعات السكانية، ما ساهم برفع كلفة النقل إلى ما بين 10 و15% من ميزانيات الأسر المعيشية، وهذه الكلفة المرتفعة بكل المقاييس، تترافق مع تزايد «رداءة» الطرق، المصنفة في المرتبة 120 بين دول العالم، وتدني مستوى السلامة المرورية، إذ تؤدي حوادث السير إلى خسائر بنحو 3 إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً (نحو ملياري دولار)، فضلاً عن الخسائر الصحية والبيئية التي يرتّبها استعمال الطرق والسيارات بكثافة واستهلاك المحروقات.
تصميم رامي عليّان | للصورة المكبّرة أنقر هنا

قدّمت الخطّة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية التي أقرّها مجلس الوزراء في 2008، مقاربة مختلفة عن سياسات النقل القائمة، إلّا أن الحكومة تمسّكت في برنامجها إلى «باريس 4» بالخيارات المُجرّبة التي أثبتت فشلها وكلفتها الباهظة، وهي خيارات تقوم على إنشاء المزيد من الطرقات أو توسيعها لاستيعاب المزيد من حركة السيارات الشخصية.

ماذا في خطّة النقل البري الحكومية؟
تقوم «استراتيجية الحكومة»، على استكمال مشاريع الطرق السريعة في لبنان غير المنجزة منذ نحو 50 عاماً، ولا سيما الطرق التي تصل إلى بيروت (بقيمة 3.780 مليار دولار) والممرّات الرئيسية على طول الساحل (وصلة خلدة – ضبية أو ما يعرف بالأوتوستراد الدائري، وصلة ضبيه – عقيبة، ومحولات الخروج من وإلى هذه الطرق بين جونية – جبيل وخلدة – الدامور، أو ما يعرف بطرق الخدمة)، فضلاً عن استكمال الأوتوستراد العربي الذي يمتدّ من بيروت إلى الحدود السورية (محلة المصنع) عبر إنجاز وصلة المديرج – الجمهور.
وكذلك تأهيل شبكة الطرق القائمة وإنجاز روابط طرق استراتيجية تربط لبنان بسوريا وتربط المدن الرئيسية (بقيمة 1.14 مليار دولار) وتتضمّن (وصلتي صيدا وصور، وصلة الساحل الشمالي – عكار، وصلة أنطلياس – نهر بيروت، وصلة التوفيقية – راس بعلبك – الحدود السورية). وإقامة شبكة طرق مناطقية جديدة وتأهيل الشبكة القائمة (بقيمة 939 مليون دولار). باعتبار أن «الطرق القائمة سبق أن خضعت لأعمال صيانة منذ نهاية الحرب الأهلية، تقدّر بنحو 40 مليون دولار، كانت تنفقها وزارة الأشغال سنوياً، إلّا أن مستويات نجاحها بقيت متفاوتة كون الحاجة الفعلية للصيانة والتأهيل كانت بقيمة 100 مليون دولار سنوياً، ما أدّى إلى أن تحوّل نحو 80% من هذه الطرق للعمل في ظروف سيئة إلى حرجة».
الدولة ستفقد سيطرتها على الخدمات العامة وكلفتها على المستهلكين والمالية العامة


تعرض الحكومة تلزيم معظم مشاريع النقل للقطاع الخاص عبر عقود الشراكة، مستندة إلى وجود إغراءات للتوظيف في تخفيف الاختناقات المرورية، إذ إن 68% من عمليات التنقّل من وإلى بيروت تتمّ عبر سيارات الركّاب الخاصة، وتنمو بمعدّل 4% سنوياً. في حين أن الاعتماد على النقل المشترك لا يتجاوز نسبة 32%، تنقسم بين التنقل بسيارات الأجرة بنسبة 16%، وبباصات القطاع الخاص بنسبة 14%، وبباصات مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك بنسبة 2%».
هذه الحركة الكثيفة لتنقل الأفراد بسياراتهم الخاصة، وضمور النقل المشترك، هي المصدر الرئيس للازدحام والكلفة الباهظة، إلا أن الحكومة تريد تحويله إلى مصدر للربح، وبالتالي لا تطرح حلّ المعضلة وإنما استثمارها.

سيناريوهات التنفيذ!
تستعرض الحكومة 5 أشكال من عقود الشراكة مع القطاع الخاص لتنفيذ مشاريع الطرق السريعة، وهي: عقود BTL (بناء-نقل-تأجير)، منح الامتيازات، عقودBOT (بناء-تشغيل-نقل)، عقود DBFOT (تصميم-بناء-تمويل-تشغيل-نقل)، وعقودBOO (بناء-تملك-تشغيل). وهذه الأشكال كلّها تعطي المشغّل الخاص امتيازات على فترات طويلة تصل إلى 30 سنة، وتمنحه حق تقاضي الرسوم مباشرة من المستخدمين أو من خزينة الدولة.
ويزيد البنك الدولي عقود التشغيل والصيانة التي «تسمح للمشغّل تقاضي رسوم من المستخدمين، في حين يتمّ تمويل عمليات البناء عبر القروض الميسرة، بعد أن تتكفّل الدولة بتنفيذ الاستملاكات المرتفعة الكلفة».
يشكّك البنك بقدرة الدولة على تمويل الاستملاكات (1.9 مليار دولار) «نظراً إلى عدم قدرة الحكومة على تمويل استملاكات أقل كلفة بكثير خلال العقد الماضي»، لذا يقترح «تخصيص جزء من ضريبة المحروقات لتمويل الطرق، أو فرض ضريبة مخصّصة (كضريبة النقل، وضريبة المواقف، فرض رسوم على النقل العام)، فضلاً عن استخدام الضرائب العقاريّة لتمويل هذه البنية التحتية أو إعطاء حقوق لأصحاب الأراضي في المشاريع التي ستنفّذ على شكل حصص في الشراكة أو توفير بدائل عينيّة (مساكن بديلة)».

«تقريش» الأوتوسترادات
يقول مدير البرامج والتخطيط في مجلس الإنماء والإعمار، ابراهيم شحرور: «ما من شيء واضح حتى الآن في ما يتعلّق بآلية تنفيذ هذه المشاريع وتوقيتها، لم يتخذ مجلس الوزراء أي قرار إن كانت ستنفّذ، ووفق أي آلية، أكان عبر العقود العادية والمناقصات أو وفق أحد عقود الشراكة كالــBOT، ولكون هناك الكثير من الدراسات التي لم تُنجز بعد. كل ما هو مطروح عن عقود الشراكة هو مجرّد أفكار، ونحن لسنا متمسّكين بها نظراً للمخاطر التي قد تترتب عنها في حال لم يتم تقاسم هذه المخاطر بطريقة جيّدة».
يوضح شحرور أن «هناك مشروعين للطرق السريعة مرشّحان للشراكة مع القطاع الخاص، وجعل التنقل عليهما مقابل بدل، وهما، خلدة – ضبية، وضبية – عقيبة لوجود كثافة تنقل في هذه الاتجاهات، على عكس الأوتوستراد العربي الذي سبق أن عُرض للشراكة وفق عقود الـBOT في التسعينيات، ولم ينفّذ، إذ بيّنت الدراسات أن حركة المرور عليه منخفضة بالمقارنة مع السعر المناسب الذي يؤمن ربحيّة للمستثمر، ولكون كلفة الاستملاكات التي ستنفّذها الدولة مرتفعة وغير متوافرة، إضافة إلى عوائق أخرى تقنية وقانونية، كعدم وجود قانون للشراكة ما كان يستوجب موافقة البرلمان على كل مشروع بمشروعه، فضلاً عن التقنيات التي كانت معتمدة لدفع رسوم التنقل، وتقتضي الدفع مباشرة قبل الدخول إلى الطريق السريعة، مع ما قد يسبّبه ذلك من اختناقات سير طويلة، على عكس تقنيات الدفع الالكتروني المعمول بها حالياً».
يقول المهندس إيلي حلو، المسؤول عن هذه المشاريع في مجلس الإنماء والإعمار، إن «أيّ دراسات للبدل المالي للعبور على الطرق السريعة لم تُنجز بعد، لأن أحداً من المستثمرين الخاصين لم يبدِ اهتماماً بها حتى الآن. ولكن هناك معادلة لاحتساب البدل تأخذ في الاعتبار كلفة المشروع، وتوزيعها بين الدولة والمستثمر، فيحدّد الرسم المناسب بحسب وفر الوقت والسرعة اللذين يحصل عليهما مستخدم الطريق، وهذا التوازن مرتبط بحركة السير أيضاً، فكلّما ارتفع السير على الطريق، كلّما انخفضت السرعة ووفر الوقت، وبالتالي ينخفض معهما الرسم والعكس صحيح».
في المقابل، يعتبر شحرور أن «معدّل الرسم المناسب للمستخدم هو 3 دولارات على طول الطريق، فإذا رفعنا عن هذه التعرفة لضمان ربحية المستثمر سيصبح التنقل عبره مكلفاً»، ويضيف أنّ «هناك أفكاراً عدّة للتعرفة المفترضة، وفق الشرائح التي تعتمد على المحطّة التي ينتقل منها وإليها المستخدم، أو بحسب الكيلومترات التي يجتازها. وفي حال كانت التعرفة لا تؤمّن ربحية المستثمر فهناك احتمالات بأن تدعم الدولة التعرفة وأن تتحمّل جزءاً من التكاليف، أو أن تنفّذ أجزاء من المشروع للحفاظ على معدل تعرفة مناسبة للمستخدمين».

الأخطار... على الطريق!
في الواقع، تنطوي مشاريع الطرق السريعة مقابل بدل على مخاطر عدّة، وهي لا تنحصر فقط بتقديم الأصول العامة للقطاع الخاص، وبالتالي تكبيد المقيمين أكلافاً مرتفعة لقاء الخدمة التي يحتاجونها، والرضوخ لشروط المستثمر التي تضمن ربحيته طوال فترة التعاقد التي تصل إلى عشرات السنين، بل تُضاف إليها مخاطر بيئية نتيجة تشجيع قيادة السيارات الخاصة بما يزيد التلوّث وهدر الموارد، والقضاء على استراتيجيات تطوير النقل المشترك لصالح التنقل الفردي، وانخفاض معايير السلامة المرورية التي قد تسبّبها السرعة المرتفعة على هذه الطرق، وغيرها.
تعدّد دراسة نشرتها مؤسّسة US PIRG (جمعية أميركية أسسها رالف نادر تُعنى بالدفاع عن حقوق المستهلك)، تحت عنوان «طرق خاصة، تكاليف عامة»، التبعات التي تولّدها عقود الشراكة في مشاريع الطرق السريعة المدفوعة، أبرزها «فقدان الدولة سيطرتها على الخدمات المقدمة، وعدم حصول المستهلكين على الخدمة بنوعية جيدة وقيمة مناسبة، نتيجة دخول الشركات الخاصة ببرامج مالية محفوفة بالمخاطر تستلزم إعادة جدولة ديونها، وبالتالي إطالة أمد التسديد وأمد إعادة المشروع حتى استعادة كافة الاستثمار، ما يعني فرض تكاليف إضافيّة على المستهلك والدولة، ينتج عنها مشكلات مضاعفة ومخاطر غير محتسبة».
لا يرى المهندس رامي سمعان (أحد مدراء شركة TMS التي تعدّ دراسات طريق ضبية – عقيبة) أن «أجهزة الدولة اللبنانية جاهزة لتحمّل مسؤولية إنشاء طرق سريعة مقابل بدل وفق آلية الـBOT، ولو أن بعض أقسام الشبكة الطرقية كأوتوستراد ضبيه – عقيبة، تملك عوامل النجاح، باعتبار أن إطلاق هذه المشاريع يستوجب وجود دولة قوية مالياً وقادرة على دعم القروض وتقديم الضمانات».
ويستند سمعان في شرحه إلى التجربة الفرنسية التي لا تتوافر معاييرها في لبنان، حيث «عمدت الدولة الفرنسية إلى إنشاء مؤسسة هي عبارة عن صندوق ائتماني كبير وميزانيته توازي ميزانية الدولة، لدعم مشاريع الطرق السريعة المدفوعة، فكان منفّذو المشاريع يستفيدون من تسهيلات مالية تشمل طريقة الاسترداد ومعدلات الفائدة، مع إمكانية تمديد العقود المنتهية للطرقات المربحة مقابل تحمّل الشركة الخاصة إنشاء وتشغيل طرقات أقل ربحية أو خاسرة». ويضيف سمعان «دور الدولة مركزي في تطوير هذه المشاريع وتنفيذ عقود الـBOT التي تستلزم دعم القطاع العام وتمويله وفرض رقابة مضاعفة في حالات خصخصة قطاع النقل الذي يُعدّ مربحاً اقتصادياً واجتماعياً وإنما خاسر مادياً».
يتحدّث سمعان عن «ربحيّة مضمونة بنسبة تتخطّى الـ8% على مدار 25 سنة لضمان جذب القطاع الخاص، وفي الاحتكارات المماثلة لا يكون الاستثمار مجدياً إن لم يبدأ بتحقيق فائض مالي يغطي مصاريفه وخدمة دين المشروع منذ السنة الخامسة، أما استرداد كافة الاستثمار فتكون محتسبة وفقاً لفترة العقد كاملة، والتي غالباً ما تكون طويلة لضمان استرداد كافة التكاليف واستهلاك البنية التحتية بما يوازي قيمة الاستثمار».
ويستند سمعان إلى الدراسة التي أنجزتها الشركة للإشارة إلى أن «طريق ضبيه – عقيبة، ستتمكّن من خفض الحركة المرورية بمعدل 60 ألف سيارة يومياً بالاتجاهين. والتكلفة المناسبة للمستهلكين هي قريبة لما يطرحه مجلس الإنماء والإعمار، إلا أنها غير مناسبة للمستثمر ولا تحقّق ربحية له، ورفعها سيؤدي إلى انخفاض حركة السير، وبالتالي فشل المشروع. وهو ما يستوجب أن تساهم الدولة في تخفيف التكاليف لإرضاء المستثمر سواء من خلال الدعم المالي المباشر للتعرفة عبر الضرائب أوغيرها، أي تكبيد من يستعمل الطريق ومن لا يستعملها كلفة المرور عليها، أو من خلال المشاركة في تنفيذ أجزاء من المشروع. فكل احتكارات المشاريع المماثلة باتت تنفّذ وفق دعم حكومي محدّد وإلزامي، إلا في حال واحدة عندما تسعى الدولة إلى إقامة طرق مماثلة على شبكة قائمة، وهي بالتالي تقدّم زبائن الطريق بدلاً من الضمانات الأخرى.»



تجارب الدول: الدعم الحكومي مصدراً للربح
الأسباب الأكثر رواجاً لفشل مشاريع الطرق السريعة المدفوعة حول العالم، تتعلق بمعظمها بتضخيم التوقعات عند تلزيم المشروع، ولا سيما التوقعات الخاصة بحركة المرور. فغالباً ما يؤدي ذلك، في المراحل اللاحقة، إلى رفع التكاليف التي يتحملها دافعو الضرائب، بطريقة مباشرة من خلال رفع تعرفة المرور لضمان ربحية المستثمر، أو بطريقة غير مباشرة عبر تحمل الدولة جزءاً من المخاطر، فتعمد الى فرض الضرائب للايفاء بالتزاماتها في عقد الشراكة، فضلاً عن أن سوء تقدير الحركة المرورية على هذه الطرق، أو رفع قيمة التعرفة، أو عدم ضمان سرعة كافية لاجتياز الطريق، قد تؤدي إلى عدم استعمالها، وبالتالي إفلاس الشركات المشغّلة وإنهاء هذه المشاريع غير المربحة مادياً من دون دعم حكومي.
في ما يلي أمثلة من بعض التجارب:
هنغاريا: بلغت حركة المرور على الطريق السريعة المجرية أقل بنسبة 50% مما هو مقدّر، وبالتالي حققت أقل من نصف توقعات الإيرادات، وبنتيجة الاحتكار الممنوح للشركة المشغّلة، فقد رُفعت الرسوم لتغطية عجز الإيرادات، ما أدى إلى تراكم حجم الخسائر، كون التعرفة المفروضة تجاوزت المستويات المقبولة اجتماعياً.
فرنسا: يشير تقرير صادر عن ديوان المحاسبة الفرنسي حول الطرق السريعة عام 2013، إلى أن «الزيادات المتعدّدة في تكاليف الرسوم على الطرق خلال السنوات الخمس الممتدة بين عامي 2006 و2011، أي منذ خصخصة شبكة الطرق السريعة، ارتفعت بمعدل أعلى من التضخم، ويعود ذلك إلى عدم قيام الدولة بواجبها للسيطرة على ارتفاع هذه الرسوم، بحيث استحوذت الشركات الخاصة التي تدير الطرق السريعة الفرنسية على 7.6 مليار يورو، ما أدّى إلى نشوء علاقة غير متوازنة بين الدولة والشركات المشغلة».
الولايات المتحدة: أفلست شركة «إنديانا تول روود» بعد ثماني سنوات من توقيع امتياز لمدة 75 عاماً، وبعود السبب إلى استراتيجية الربحية القائمة على افتراضات خاطئة لحركة المرور، ما جعل استثمار أصول البنية التحتية لتحقيق عائدات مستقرة أمراً غير مضمون، وذلك بعد أن رفعت الشركة التعرفة إلى الضعف لسد العجز الناجم عن حركة المرور الضعيفة التي انخفضت 11% عما هو متوقع. فضلاً عن اعتماد خطة تمويل محفوفة بالمخاطر، إذ أوصلت عمليات إعادة جدولة الديون إلى إطالة فترات الاستثمار وبالتالي زيادة قيمة الإيرادات المحصلة من دافعي الضرائب.
أستراليا: واجهت الطريق السريعة «ويست كونيكس» انتقادات كثيرة، لأسباب عدّة أبرزها زيادة تكاليف رأسمالية غير مقدّرة، أدّت إلى ارتفاع تكلفتها من 10 مليارات قبل التنفيذ إلى 16.8 مليار دولار بعد التنفيذ، وهو ما أجبر الحكومة على بيع أقسام من الطريق لسد التزاماتها في المراحل المتبقية من تنفيذ المشروع. فضلاً عن اعتراضات سائقي السيارات على دفع بدل مقابل استعمال الطرق الذي يعدونه حقاً عاماً، لا يجوز منحها خلافاً للدستور للقطاع الخاص لاستثمار أصولها.


استراتيجية الحكومة: الشيء ونقيضه
تنطوي استراتيجية الحكومة لقطاع النقل البري على «الشيء ونقيضه»، بحسب المهندس المتخصص بنظم النقل، تمام نقاش، فهي «من جهة، تسعى إلى تنفيذ مشاريع طرق سريعة وتوسيع طرق قائمة وتأهيلها، بما يعطي الأفضلية للسيارات الخاصة، ومن جهة ثانية تطلق شبكة للباصات السريعة في بيروت الكبرى للنقل المشترك». وهنا يكمن التناقض لأن «المنافس الأول للنقل المشترك هو السيارة الخاصة، والتي غالباً ما تكون مُسيطرة، وهو ما لا يعطي اللبناني خياراً آخر للتنقل».
يقول نقاش إن «الدولة مقصّرة في تطوير نظم وشبكات النقل المشترك، وبدلاً من إمداده بالحوافز الإيجابية التي تضمن نجاحه، أي جعله وسيلة منظّمة تقدم خدمة سريعة ولائقة للمستهلك، فهي تعطي فرصة للطرق السريعة التي تشجع الناس على استعمال سياراتهم الخاصة وبالتالي تفشّل مشروع النقل المشترك مسبقاً»، ويتابع نقاش: «هناك قلة تناسق في صياغة الاستراتيجيات الوطنية، إذ لا يمكن لدولة أن تشجع وتمول وتنفذ مشاريع كبرى مثل الطرق السريعة والمواقف، من حساب الخزينة أو من خلالها القروض، تنطوي على أكلاف مرتفعة على المجتمع، وتهمل مشاريع النقل أو تضع خططاً رديفة تسهم بفشلها».
أما عن هاجس الحكومة في حل أزمة السير عبر مشاريع أقل تكلفة، بحسب ما تشير في خطتها، يقول نقاش إنه «لا يمكن تطوير طرق سريعة مقابل بدل، دون تأمين طرق موازية للناس مجانية، وإلا نكون أمام سياسة تقصد دفع الناس نحو الخيار الأول»، وبحسب نقاش إن «الطرق غير المؤهلة (أي الشبيهة بحالة الطرق اللبنانية القائمة) لا يمكن اعتبارها مجانية، كون فاتورة زحمة السير وما ينجم عنها من ضرائب بيئية وصحية، وضرائب للمحروقات والسيارات، هي كلها ضرائب غير مباشرة يدفعها المستهلك دون أن يكون لديه بديل مجاني».
ولا يرى نقاش أن «أزمة السير تحل بتوسيع الطرق»، ويشبّه الطرق بفرد يعاني من زيادة السمنة، ويقول إن «علاج السمنة الزائدة لا يكون بتوسيع ملابس الفرد الذي يعاني منها، لأنه حكماً سيميل نحو تناول المزيد من الطعام واكتساب المزيد من السمنة، والأمر نفسه ينطبق على الطرق، فتوسيعها لا يحل المشكلة، بل يزيد عدد السيارات التي تستهلكها. والحل الأفضل هو الاعتماد على نظام متجانس قائم على النقل المشترك يقدم خدمة للصالح العام»، ويشير نقاش إلى أن «المشاريع الاستراتيجية لا ينظر إليها من منطلق كلفتها المالية وإنما من ناحية كلفتها الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يؤمنه النقل المشترك الذي ينشط الاقتصاد ويخفف التلوث ويوفر الوقت، كما أن انعكاساته تطاول كل المجتمع، وتفيد من يستعمله ومن لا يستعمله نتيجة تخفيف ضغط الحركة المرورية على الطرق، فضلاً عن تخفيض التلوث وما ينتج عنها من أمراض».