تجاوزت مدينة كيب تاون الافريقية، هذا الشهر، «قطوع» ان تصبح أول مدينة في العالم من دون مياه. اعتماد سياسات ترشيد الاستهلاك، من دون حاجة الى انشاء مزيد من السدود او تحلية مياه البحار او جرّ كتل الجليد، أدّت إلى إبعاد هذا الكابوس. إتباع مناهج بسيطة ومتاحة لضبط الهدر والاستهلاك يمكّن من الاستغناء عن إنشاء سدود سطحية مكلفة، خصوصاً في بلد كلبنان، يتمتع بنظام ايكولوجي متجدّد ومميز، وبميزان مائي فائض.تقارير دولية وأممية عدة توقعت، ضمن مؤشرات جدية، أن تصبح مدينة كيب تاون في جنوب إفريقيا، أول مدينة كبرى في العالم ينفد منها الماء نهاية آذار الجاري. إلا أن تقديرات الموعد النهائي المشؤوم لحلول هذه الكارثة تغيّرت كلياً، لتقذف بهذه التوقعات إلى نهاية آب المقبل الذي يتزامن مع الموسم الذي تشهد فيه تلك المنطقة هطول أمطار غزيرة كل عام. فما الذي حصل، وما هي السياسات التي اتبعتها المدينة لتحاشي نفاد المياه؟
حلول كثيرة اقتُرحت على سلطات كيب تاون، من مؤسسات دولية استثمارية، لحل الأزمة، من بينها تحلية مياه المحيطات، او زيادة أعداد السدود السطحية، وصولًا إلى اقتراح سحب جبل جليدي يزن سبعة أطنان من جزر الكناري... إلا أن المدينة فضّلت أن تحذو حذو مدن عدة، كميلبورن الأسترالية التي التزمت منذ عام 1996 باتباع عادات معتدلة في استهلاك المياه بعد تعرضها لجفاف مماثل. فقد أدّت التدابير التي اتخذتها ميلبورن، سواء كانت إلزامية (كفرض غرامات على ري الحدائق نهاراً)، أو طوعية (كالحسومات المغرية على شراء غسالات أكثر كفاءة وأقل استهلاكًا للمياه) إلى تقليل استهلاك المياه إلى النصف تقريبًا.
كان معدّل استهلاك كيب تاون من المياه يتجاوز، في العادة، 1.2 مليار ليتر في اليوم. لكنه تراجع مؤخرًا إلى 510 ــــ 520 مليون ليتر، بعد اتخاذ المدينة كل الإجراءات الممكنة لترشيد الاستهلاك، ما أسهم في تمديد الموعد النهائي إلى آب المقبل (موسم هطول الامطار). ورغم ذلك، تحتاج المدينة إلى حل طويل الأمد لسد احتياجاتها من المياه. مع الأخذ في الحسبان أن كارثة الجفاف الحالية بسبب شح الأمطار منذ ثلاثة أعوام، من المرجح تكرّرها في المستقبل بسبب تأثيرات أخرى للتغير المناخي. كما تنبغي الاشارة الى أن السدود السطحية في المدينة لم تحل دون حدوث الازمة. اذ إضافة الى قلة المتساقطات، ادّى ارتفاع درجات الحرارة الى زيادة تبخر المياه السطحية المجمعة وتفاقم الازمة، وهذا ما كانت حذرت منه دراسة حزب البيئة اللبناني عام 2010، في معرض اعتراضها على الخطط المعتمدة على انشاء السدود السطحية المكلفة في لبنان.
تغير المناخ وأنماط سقوط الأمطار غير الطبيعية لن ينفع معها انشاء المزيد من السدود


ليست كيب تاون وحدها التي تعاني من مثل هذه المشكلة. إذ أن هناك توقعات كثيرة بإمكان حدوث الامر نفسه في مدن كثيرة حول العالم، بسبب تغير المناخ، مع توقع مزيد من أنماط سقوط الأمطار غير الطبيعية التي رأيناها في السنوات القليلة الماضية، والتي لن ينفع معها انشاء المزيد من السدود السطحية، كما لم تنفع سدود كيب تاون وخططها السنوية التقليدية لتوزيع المياه.
تعتبر كيب تاون مثالاً صارخاً للتحديات التي تواجهها العديد من المدن (التي تتكثف فيها السكان ويزداد عددها باستمرار)، لا سيما في البلدان المصنّفة نامية، من دون وجود سياسات تربط قضايا الطاقة بالمياه والسكان والتنمية، مما سيفاقم المشاكل ذات الصلة مثل الغذاء والطاقة ومياه الشرب، ومما يزيد الضغط على النظم الطبيعية.
هذا المثال يؤكد أن حفظ البيئة يساهم في حفظ المياه أكثر من مشاريع انشاء السدود السطحية. فاستنزاف الأراضي الرطبة وإزالة الغابات والإفراط في استخراج المياه الجوفية وإنتاج مياه الصرف الصحي والتلوث المتزايد من الزراعة والصناعة... كلها عوامل تؤثر سلبًا على سلامة المياه وكفايتها. ولا بد من اعتماد استراتيجيات لاستخدام المياه بكفاءة أكبر، لا سيما في قطاعي الزراعة والسياحة (المسكوت عنها في ادبيات المياه). فالري بالتنقيط ووقف الهدر في الشبكات ووضع تسعيرة خاصة على الاستخدام المفرط للمياه في القطاع السياحي ومعالجة مياه الصرف الصحي واعادة استخدامها في القطاع السياحي او في ري الحدائق العامة وترشيد استهلاكها في الصناعة لناحية إعادة الاستخدام أيضا… كلها يمكن أن تخفض الاستهلاك الى النصف، وتغنينا عن الاستدانة لإنشاء السدود السطحية. اضافة الى تعزيز التخزين الجوفي في الأماكن الممكنة واعتماد البحيرات الجبلية الصغيرة وغير المكلفة بدل السدود السطحية، ودور الدولة ــــ وزارة البيئة تحديداً ــــ في حماية واستعادة النظم الإيكولوجية ذات الصلة بالمياه بحيث تحافظ على وظائفها، وتوفر الخدمات الأساسية مثل مياه الشرب والزراعة والطاقة. كما يجب ألا نكون بعيدين عن إعادة الاعتبار للضرائب البيئية كفرض الغرامات على الاستخدام المفرط للمياه، واعادة ضبط الآبار الجوفية القانونية، واقفال غير القانونية، وتشجيع الأفراد على تقليل استهلاكهم المنزلي من المياه. وأخيراً، اعادة النظر في قانون المياه الذي عليه أن يتشدّد في حماية المصادر وعدالة التوزيع والابقاء على هذا المورد كحق، بدل أن يتحوّل الى سلعة.