الأموال المرصودة للبنان من «باريس 4» لا تكفي لتمكين لبنان من تجاوز أزمته المالية. هذه هي خلاصة اللقاءات التي حصلت خلال الأيام الماضية بين نقابة المقاولين ورئيس الحكومة سعد الحريري، وبين النقابة وجمعية المصارف وبين هذه الأخيرة وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. الكل يدور في دوامة البحث عن أداة جديدة لاستقطاب الدولارات من دون البحث الجدي في الأثر الناتج من اللجوء إلى هذه الأداة والشروط التي ستفرض على لبنان والخيارات البديلة المتاحة.
باريس 4: أداة التطويع

حين أعلن مصرف لبنان قبل أشهر تعديل سياسات دعم القروض السكنية وتقليص دوره فيها، لم يكن مدفوعاً بقناعات مرتبطة بدوره ووظيفته التي تفرض عليه ألا يحلّ محل الدولة في وضع سياسات اقتصادية وتنفيذها، بل كان منطلقاً من اعتبارات متصلة بأولويات السياسة النقدية التي فرضت عليه، في هذه المرحلة، الحفاظ على تدفق الدولارات الطازجة من الخارج لتعزيز الموجودات بالعملة الأجنبية، بما يوفّر له الدفاع عن سياسة تثبيت سعر صرف الليرة.
لبنان محكوم بهاجس تدفق الدولارات «الطازجة»: أموال «باريس 4» لا تكفي!


قبل عام 2011، كان القطاع العقاري يمثّل أداة رئيسة لاستقطاب الدولارات الطازجة، وكان مصرف لبنان يدعم بيع الشقق بفوائد مدعومة للحفاظ على استمرار تدفق الدولارات، إلا أنه عندما تخلّف هذا القطاع عن أداء المهمة أوقف الدعم. مؤشّر القلق في هذا المجال يكمن في ميزان المدفوعات الذي بدأ يسجّل عجزاً منذ عام 2011، أي أن الدولارات التي خرجت من لبنان أكبر من تلك التي دخلت إليه، وبالتالي فإن مصرف لبنان مضطر إلى استعمال موجوداته بالعملات الأجنبية لتغطية الطلب على الدولار في السوق.
استمرار العجز في ميزان المدفوعات للسنوات التالية، شكّل إشارة سلبية مقلقة، ما دفع مصرف لبنان في 2016 إلى مواجهة العجز المتراكم بواسطة «بدعة» الهندسات المالية. بعد بضعة أشهر، سقطت فعالية هذه الأداة في استقطاب الدولارات من الخارج، إذ إن نصف كميّة الدولارات المستقطبة عبر الهندسات الباهظة الكلفة خرجت من لبنان.
هكذا عاد منسوب القلق إلى الارتفاع، ما دفع «المركزي» إلى توسيع هندساته في اتجاه تنفيذ عمليات مع وزارة المال تستبدل الدين بالليرة بالدين بالعملات الأجنبية وتتيح لمصرف لبنان تسييل سندات الدين بالعملات الأجنبية للحصول على الدولارات الطازجة... هشاشة خطّ الدفاع هذا، ظهرت عند أول استحقاق بعيد احتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية واستقالته القسرية في الخريف الماضي، فاضطر مصرف لبنان إلى العودة لاستعمال أدوات المواجهة الكلاسيكية ورفع أسعار الفائدة، إلا أن النتائج المحققة لم تكن مرضية.
في الواقع، لم ينظر أحد إلى كلفة الأدوات المستعملة لاستقطاب الدولارات وسرعة استنفادها، ولا إلى أثرها السلبي اقتصادياً واجتماعياً، بل عملت قوى السلطة على توجيه النقاش نحو الأداة التالية وفعاليتها، أي مؤتمر «باريس 4». وما يحصل اليوم أنه لا يُنظر إلى المؤتمر بشروطه التي تمسّ السيادة اللبنانية، ولن تناقش وصفاته الجاهزة وأثره السلبي، بل يجري تسويقه على أنه أداة «إنقاذ» لم تكن موجودة لولا قوى السلطة التي تطلب التجديد لها، بواسطة الانتخابات النيابية في أيار المقبل!

رياض سلامة: من المتوقع أن يكون حجم التمويل بين 4 و5 مليارات دولار(هيثم الموسوي)

هذه هي حقيقة مؤتمر «باريس 4» بالنسبة إلى لبنان. هو إحدى أدوات استقطاب الدولارات «الطازجة» المشروطة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. شرطها السياسي متصل مباشرة بالشرط المعلن في مؤتمر روما في ما خصّ الاستراتيجية الدفاعية أو بالشرط المبطن وعنوانه سلاح حزب الله. أما شرطه الاقتصادي، فيكمن في الخصخصة التي ستدفع الدولة إلى التخلّي بشكل مؤقت أو دائم عن أصول تتعلق بالخدمات العامة، والشرط الأمني ــ الاجتماعي ألا يكون لبنان ممراً لهجرة النازحين السوريين إلى أوروبا. ربما هناك من يزيد بأن الشرط الأخير يشمل أيضاً توطينهم في لبنان. أما استثمار المؤتمر محلياً، فهو أن تتمكن قوى السلطة من تسويق فكرة بأنها أنقذت لبنان من براثن الانهيار بعلاقاتها الدولية ونموذجها الاقتصادي!

وصفة «الإنقاذ» لا تكفي

في هذا الإطار، يؤدي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة دور مدير عمليات الإنقاذ. عملياً، هو ينقل البارودة من كتف «الهندسات» إلى كتف «باريس 4». بالنسبة إليه، كل المحاور هي سياسته النقدية. فقد نقل عدد من رجال الأعمال، عن حاكم مصرف لبنان قوله «إننا نعوّل على القطاع الخاص لأن مؤتمر باريس 4 وضع الشراكة مع القطاع الخاص شرطاً لمساعدة لبنان مالياً، ونحن بحاجة إلى هذه الدولارات الطازجة». وفي اللقاء الشهري الأخير بين حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف، يقول سلامة: «من المتوقع أن يكون حجم التمويل بين 4 و5 مليارات دولار»، مشيراً إلى أن مصرف لبنان «سيسعى إلى أن تتمكن الشركات الحائزة مشاريع الشراكة من تأمين سيولة جديدة (fresh Money) تدخلها إلى البلد».

حوار نقابة المقاولين وجمعية المصارف

«معطيات سلامة ليست دقيقة»، يقول مصدر مطّلع على هذه الاجتماعات. في رأيه، إن سلامة يحاول نفخ الأرقام للتقليص من سوء الأوضاع المالية. يستدلّ المصدر على كلامه بالإشارة إلى مضمون اللقاء الأخير بين نقابة المقاولين وجمعية المصارف بهدف طلب مساعدتها على تخفيف كلفة استدانة المقاولين والأعباء المالية المترتبة عليهم في ظل امتناع الدولة عن سداد فواتيرهم. رئيس جمعية المصارف جوزف طربيه قطع الطريق على هذا المطلب بالقول: «نراهن على مؤتمر باريس 4، لكنه سيفشل بلا مشاركة السعودية ودول الخليج بالعطاء، إذ إن مصرف لبنان وصل إلى أقصى إمكاناته ولم يعد بإمكانه التدخل. لا هندسات ولا قروض مدعومة تنفع».
ردّ رئيس نقابة المقاولين مارون الحلو: «فهمنا من رئيس الحكومة سعد الحريري بأن معلوماته عن حجم المساعدة التي سيتلقاها لبنان من مؤتمر باريس 4 هي على الشكل الآتي: ستضع السعودية في صندوق الدعم مبلغ 600 مليون دولار، ما يتيح للبنان اقتراض 5 أضعاف هذا المبلغ، أي ما يعادل 3 مليارات دولار». عندها، ردّ نائب رئيس جمعية المصارف سعد الأزهري بالقول: «هذا المبلغ لا يكفي. نحن في الحدّ الأدنى بحاجة إلى أكثر من 6 مليارات دولار لتجاوز الأزمة».

المصارف ضدّ الخصخصة!

لم يقتصر النقاش على مؤتمر «باريس 4»، بل توسّع نحو ما يحصل في الأسواق المحلية من عمليات تقزيم للشركات، إذ قال مارون حلو: «هناك توجه بين الشركات لتقليص حجمها وتقزيمها، فكيف يمكن أن نُسهم في عمليات إعادة إعمار سوريا في ضوء هذا التقزيم. الأسوأ أن المصارف رفعت الفائدة على تسهيلات أخذناها ووضعنا أسعارها على أساس مستويات معينة من الفوائد، ثم فوجئنا برفع أسعار الفائدة... اليوم، هناك مشاريع خصخصة وشراكة مع القطاع الخاص، إذ يقال إن هناك 50 في المئة من المشاريع المطروحة في مؤتمر باريس 4 هي شراكة، ما يثير تساؤلات عن مستقبل التسهيلات المصرفية؟».
ردّ طربيه: «المراسيم التطبيقية لمشاريع الشراكة لم تصدر بعد، وليس هناك قدرة على التمويل المحلي لهذه المشاريع التي يفوق حجمها قدرة المصارف المحلية، علماً بأنه على الأغلب سيكون تمويل هذه المشاريع خارجياً، لكن في المبدأ، كل مشاريع الخصخصة فشلت في لبنان، ووصل بعضها إلى التحكيم وفرض على الدولة دفع تعويضات كبيرة».
إذاً، المصارف ضدّ الخصخصة. موقف المصارف بالطبع ليس عقائدياً، بل يرتبط بآليات التمويل وطبيعة الأهداف. فلو لم تكن الخصخصة المطلوبة عبر باريس 4 تشكّل منافساً للمصارف على دورها كأداة سمسمرة لاستقطاب الدولارات الطازجة، لما رفضتها حتماً. والمصارف، انطلاقاً من طبيعتها الريعية، واعتيادها تحقيق الأرباح من نهب الدين العام، هي في الواقع ترفض، ضمناً، أهداف التمويل من باريس 4 لكونها متصلة بالإنفاق على مشاريع بنية تحتية، أي أنها مشاريع استثمارية وليست أموالاً تستثمر في الريوع!

البدائل متوافرة

المشكلة أن لبنان لم يدرس الخيارات البديلة. أول فكرة كانت اللجوء إلى «باريس 4». لا أحد يعلم مصدر هذه الفكرة والأسباب الموجبة لها. فلو توافرت للبنان الإرادة السياسية للقيام بإصلاحات تؤدي إلى وقف السرقة والنهب وتغليب المصلحة العامة على المصالح الفئوية والضيّقة، لأمكنه أن يستدين من السوق لإطفاء كلفة دعم الكهرباء، وأن يعمل على إطفاء جزء من الدين العام الذي تحمله المصارف من خلال خفض الفوائد... هناك الكثير من الخيارات البديلة عدا عن رهن سيادة لبنان للدول المانحة.


فائض حساب الخزينة

تبيّن أن حساب الخزينة لدى مصرف لبنان يسجّل فائضاً بقيمة 5000 مليار ليرة (3.3 مليارات دولار)، وأنه سيستعمل لتمويل العجز في مشروع موازنة 2018 والبالغ 8000 مليار ليرة وفق كلام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في الاجتماع الشهري مع جمعية المصارف. هذا المبلغ جمعته الدولة من خلال إصدارات سندات الخزينة ولم تستعمله، بل حوّلته إلى حساب احتياط مودع في حسابها لدى مصرف لبنان ولا يتم تحريكه إلا لتسديد إنفاق طارئ.
المفارقة أن الدولة تدفع فوائد على هذا المبلغ، أي أنها تتكبد أكلافاً إضافية من دون أي مبرّر للاحتفاظ بكل هذا المبلغ، إذ يمكن الاحتفاظ بمبلغ أصغر نسبياً كاحتياط. وبحسب مصادر مطلعة، فإن هذا المبلغ كان يتجاوز 10 آلاف دولار في فترات سابقة، اي أن الكلفة المتراكمة على هذا المبلغ خلال السنوات الماضية كبيرة، لكنها كلفة مخفية ضمن حسابات الدين العام.


المصارف في مواجهة ضغط السيولة

أصدر مصرف لبنان تعميماً يفرض على المصارف التقيد بمعايير بازل 3 لجهة نسب تغطية السيولة. وينص التعميم على أنه يجب أن تعكس هذه النسبة التقويم الذاتي لمخاطر السيولة وأن تتناسب مع سمة وخصائص مخاطر السيولة التي يمكن أن تتعرض لها، على أن تفوق نسبة 100% بكل عملة رئيسة. هذا التعميم لاقى استحساناً من وكالة التصنيف «موديز»، إلا أن الوكالة أوضحت في تقرير صدر أخيراً، أن اختبار ضغط السيولة على فترة 30 يوماً، أظهر أنه لن يكون بإمكان المصارف تسييل سندات الدين السيادية بسرعة حتى مع بيع السندات بأقل من سعرها في السوق الخاصة. والسبب هو أن سوق السندات اللبنانية محدودة، ما يترك لها احتمال أن يقوم مصرف لبنان بشراء هذه السندات لتمويل سيولة المصارف.


تعويم ميزان المدفوعات

قرّر مصرف لبنان تعويم ميزان المدفوعات من دون أن يتأثر بتحذيرات صندوق النقد الدولي عن مخاطر التوسع في العمليات المالية التي كانت تقتصر على المصارف فقط، بل أكمل في اتجاه بدء العمليات مع وزارة المال ونفّذ في تشرين الثاني الماضي عملية استبدال حصل بموجبها على سندات يوروبوندز بقيمة 1.7 مليار دولار سدّد ثمنها للوزارة من خلال إطفاء سندات بالليرة اللبنانية بقيمة 2562 مليار ليرة والاكتتاب بسندات جديدة بقيمة 3000 مليار ليرة بفائدة 1 في المئة. وقبل نحو أربعة أسابيع، عمد «المركزي» إلى تسييل هذه السندات، وباع ما قيمته مليار دولار في السوق الدولية، و700 مليون دولار في السوق المحلية. سعر مبيع السندات جاء أقل من سعر إصدارها، ما كبّد مصرف لبنان خسائر بقيمة تفوق 40 مليون دولار، إلا أنها أتاحت له تعويم ميزان المدفوعات بشكل اصطناعي، وخرج الحاكم رياض سلامة ليعلن الأسبوع الماضي أن ميزان المدفوعات حقق فائضاً.
قلّة في السوق علمت أسباب تدهور أسعار سندات اليوروبوندز، لكن الجميع كان يرى في النتيجة «ضربة كبيرة»، إذ سرعان ما تبع بعض المستثمرين الأجانب خطوات مصرف لبنان وتخلّصوا من سندات يحملونها على اعتبار أن الدين اللبناني ليس آمناً لاستثماراتهم.