تدين قوانين الانتخاب المتعاقبة لقانون 1950، انه يفتح الباب عريضاً على نشوء جبهة معارضة لم تتوخّ منافسة لوائح كان يدعمها عهد بشارة الخوري، شأن ما درج حتى ذلك الوقت، بل طرحت نفسها بديلاً منه. لم يكن الامر سهلاً في دائرة من تسعة مقاعد هي الشوف ـ عاليه، لم تتمكن في خاتمة الاقتراع سوى في الحصول على خمسة مقاعد، بينما اللائحة المنافسة، بدعم من الرئيس برئاسة شقيقه «السلطان» سليم الخوري حازت الاربعة الاخرى.
في ما بعد ستكشف فصول السنة التالية ان نواة الخمسة لم تكتف بقيادتها المعارضة، ولا اتساع دائرة المتحالفين معها من الشمال الى الجنوب، بل ستشق الطريق الى اطاحة رئيس الجمهورية وحمله على التنحّي، وهو في منتصف ولايته الثانية.
بين 28 تموز و19 كانون الاول 2009، تسنّى لي تسجيل بضع ساعات مع غسان تويني، وكان انهكه جسده، فلزم بيته في بيت مري. في اربع مقابلات حينذاك، روى اول ائتلاف بين رجلين اضحيا النموذج الصارخ للخصومة السياسية في المنطقة والمنطق، هما نائبا الشوف كميل شمعون وكمال جنبلاط. لا تشبه عداوتهما ما كان بين اميل اده وبشارة الخوري، الا انهما كادا ان ينجحا في جعل لبنان برمته يدور في فلكهما.
قرّر كمال جنبلاط اعلان لائحة ائتلاف انتخابي من الباروك في 18 آذار 1951، تقتصر على مرشحي الحزب التقدّمي الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي. قبل مغادرته منزله في بيروت، في طريقه اليها، انتحى نجيب ابوحمزة احد ابرز مستشاري البيت الجنبلاطي بغسان تويني، مرشح الحزب الحليف جانباً، وهمس في اذنه: من الآن الى ان تصلا الى الباروك، عليك ان توجد الف حجة من اجل اقناعه وتلح عليه ان لا يعلن لائحة ليس فيها كميل شمعون. لائحتنا بلا كميل شمعون لن تربح الانتخابات.
اضاف: لا احد سواك يسعه الحؤول دون اعلان لائحة بلا كميل شمعون.
ردّ تويني: هل جئت تقنعني بما اعتزم القيام به. اكيد اريد اقناعه بضمه الينا.
قال نجيب ابوحمزة: انا لا اقنعك، بل اقول لك ان تفعل حتى لا نتلقى ضربة قاسية في الشوف. الجماعة حشدوا اناساً، واخشى اصطداماً وربما مذبحة. اذا اعلنا لائحة من دونه، يعني لا غطاء مارونياً كبيراً لها. سيربح عندئذ بشارة الخوري. سيذبحنا.
عندما بلغا عين زحلتا ابصرا تجمّعاً من انصار الزعيم الدرزي احاط بسيارته، وطلبوا منه ان لا يكمل الطريق تفادياً لاطلاق نار يلعلع في الباروك. قيل له ان قتيلاً سقط هناك.
سأل كمال جنبلاط: ماذا نفعل؟
ردّ غسّان تويني: ماذا نفعل؟ نكمل. هل يمكنك، انت كمال جنبلاط، ان لا تدخل الشوف؟

زعيم دير القمر
نجح في مناورة افضت الى ان يتحوّل من شخص لا يريده ندّه الدرزي الى حاجة ملحة للائحته كي تتمكّن من الفوز


تروّى جنبلاط في التعقيب: اذا دخلنا مع جماعتنا قد تقع مذبحة.
ردّ تويني: واذا لم تدخل تقع مذبحة.
قال: لنذهب الى هناك.
انتظرا وصول نعيم مغبغب بعض الوقت في عين زحلتا. كان البعض اقترح على كمال جنبلاط التحالف مع كميل شمعون الذي اصر بدوره على ضم نعيم مغبغب الى اللائحة مرشحاً عن المقعد الكاثوليكي. بيد ان جوابه: لا اريد الاثنين معاً.
ركنت السيارة الى جانب مقهى قريب من بيت انعام رعد، نسيب نعيم مغبغب الذي كان لا يزال حتى ذلك الوقت في مواجهة رجال الدرك في الباروك. ضاعف الانتظار المحتشدين من حول سيارة كمال جنبلاط.
سأله غسان تويني ماذا يعتزم القيام به، فأجابه: ماذا سنفعل؟ يا جماعة قد نتأخر.
اكملت السيارة طريقها حتى مدخل الباروك، عندئذ اصبح ازيز اطلاق النار اكثر اقلاقاً. كانت سيارة كميل شمعون الى جانب الطريق وبعض رجال الدرك يمنعون الدخول الى الباروك بحجة تجنيبهم التعرّض لاطلاق نار، يُلحق الاذى بهم في مكان يضج بالفوضى والضجيج. في ما بعد أُخبِرَ كمال جنبلاط ان رجال الدرك تسلحوا بهذه الذريعة للحؤول دون تدفق انصاره على البلدة والمشاركة في الاحتفال.
طلب جنبلاط اكمال السير الى الباروك: لنرَ ماذا يحصل هناك. الناس ينتظروننا في المهرجان. نعبر من بين الناس ونصل.
سأله تويني: هل تظن انك ستصل حياً الى المهرجان؟
اجاب: هل يطلقون النار عليّ.
قال: اكيد يطلقون النار عليك.
ردّ: لنتبصّر اذاً في الامر.
نادى جنبلاط على عارف يحيي ونجيب ابوحمزة الذي لحق به في سيارته وبعض انصاره في الباروك، وسألهما ما العمل.
قال ابوحمزة: لدينا ثلاثة احتمالات. ان نعود ادراجنا، او نذهب الى ساحة المهرجان، او نعلن اللائحة من مكان آخر في الباروك. علينا اكمال المعركة معهم.
لم يجب كمال جنبلاط، فقال غسان تويني: مَن يشكك في اننا سنمضي في المعركة؟ هم إما يريدون منعنا من الاستمرار او جرّنا الى معركة انتخابية بلا كميل شمعون. اي يسعون الى معركة في وجه لائحة ضعيفة بلا منافسة. ثم خاطب كمال جنبلاط: هل في امكانك خوض معركة بلا كميل شمعون؟ هل تشكك في انه معنا في هذه المعركة. إسأل الناس واصحابك عمن هم في ارض الباروك. ليسوا كلهم جماعتك. ايضاً جماعته وجماعة نعيم مغبغب. في عين زحلتا جماعته. ما يجري فيها يقوم به انصاره وليس انت.
ردّ: طيّب يا عمّي اطلبوا مغبغب كي نتعرّف اليه.
لم يكن عرف قبلاً نعيم مغبغب. عندما حضر سأله: ماذا سيحصل في رأيك؟
قال مغبغب: ذهبتُ الى الدرك وقلت لهم انهم يكبّرون المشكلة بدلاً من تصغيرها. اجابوني اذا لم تكبر لن تصغر. اقتنعت بالردّ.
قال غسان تويني لنعيم مغبغب: كم لديك هنا من الاشخاص تخوض بهم المواجهة لإلهاء الدرك.
ردّ: لا يبقى احد الا ويأتي.
سأله: من اين هذا الدعم؟
اجاب: نحن نعترض الطريق.
سأل غسان تويني: مَن؟
اجاب: نحن وكميل شمعون.
انتهى الاجتماع بذهاب كمال جنبلاط وغسان تويني ونعيم مغبغب الى بيت كميل شمعون. لبث كمال جنبلاط في السيارة في انتظار ما يناقشه غسان تويني معه واستعداده للمواجهة في الشارع.
في الداخل، توجه شمعون بالسؤال إلى تويني: اين صاحبك؟
ردّ: في السيارة.
قال كميل شمعون: ليأتِ.
اجتمع الاربعة. قال نعيم مغبغب: نحن نتولى إلهاء الدرك في انتظار وصول البيك وطرح الصوت. متى طرحناه لن يبقى درزي في بيته.
سأل غسان تويني: هل تريد إشعال حرب اهلية؟
اجاب: لا، نحن نقف مع الدروز فقط.
كان كمال جنبلاط يعتزم في الباروك اعلان لائحته الانتخابية عن دائرة الشوف ـ عاليه، خالية من كميل شمعون، تاركاً المقعد الماروني شاغراً، مكتفياً بنواتها منه وانور الخطيب عن الحزب التقدّمي الاشتراكي، وغسان تويني عن الحزب السوري القومي الاجتماعي، وفضل الله تلحوق القريب من الحزب. لم يكن اسم اميل البستاني ـ في لندن آنذاك ـ مطروحاً. طرح كمال جنبلاط عن المقعد الكاثوليكي سالم عبدالنور او نسيبه ادمون الناشف، بينما طلب كميل شمعون نعيم مغبغب.
مع ذلك، بدا جلياً ان كمال جنبلاط يتعمّد تجاهل ندّه لتفادي انضمامه الى اللائحة. كشف موقفه لغسان تويني: نذهب الى مهرجان الباروك ولا نضمّه الينا.
ردّ تويني: من المستحسن ان نغادر من هنا الى بيروت.
قال: لا. نذهب الى المختارة.
ردّ: يعني تقول لهم ان يأتوا الينا.
قرّر الزعيم الدرزي فور اعلان اللائحة الاعتصام في قصر المختارة بغية جعل المواجهة مع بشارة الخوري وشقيقه «السلطان» سليم على فوهة بركان. انصاره في الشوارع ببنادق قديمة.
توجّها الى منزل كمال جنبلاط في بيروت، في جوار المتحف الوطني.
اقترح غسان تويني عقد اجتماع موسّع لاعضاء اللائحة ينضم اليه كميل شمعون.
عقّب: ماذا سنقول له؟
قال: ندعوه الى هنا كي نتفق معه على الانضمام الينا، لأننا اصبحنا واقعياً نحن واياه في موقع واحد.
سأل: كيف؟
قال: الذين كانوا على ارض الباروك في المواجهة قبل وصول الدرك هم جماعته ونعيم مغبغب. الدرك لم يطلقوا النار على الناس رغم ان ان في امكانهم ان يفعلوا. الدروز ايضاً لم يستفزّوا الدرك لاطلاق النار لأن ضابط الدرك آمر الحامية يعرف ان اطلاق النار على الدروز يحملهم على الردّ بالمثل، عندئذ تندلع حرب بين الطرفين. لا قرار باطلاق النار.
ردّ كمال جنبلاط: ماذا نفعل الآن؟
قال تويني: يقتضي ان يأتي اولاً(شمعون).
ردّ: طيّب. افعل ذلك. ثم؟
قال: تقدّم في مجلس النواب استجواباً الى الحكومة تتهم «السلطان» سليم بافتعال احداث الباروك وسعيه الى نصب فخ لتعطيل اجراء الانتخابات بغية ايقاع الناس بعضهم ضد بعض في حرب اهلية.
دُعي كميل شمعون الى اجتماع الرجلين، وكانا عكفا على وضع مسودة الاستجواب. قرأاه عليه فأيده. قلّب الصفحة اكثر من مرة، يتفحّصها ويتصرّف كأنه يدقق في عباراتها. بين حين وآخر يرفع نظارتيه ثم يخفضهما او يبدلهما باخرى.
سأل اولاً: ماذا يعني الاستجواب، والامَ سيؤدي؟
قال غسان تويني: مناقشة الحكومة في المجلس حيال ما حدث في الباروك وتحميل «السلطان سليم» مسؤولية ما حدث.
ردّ شمعون: حسناً. لنرَ ماذا يمكن ان نفعل. هل الصحافيون هنا؟
قال تويني: موجودون في الخارج.
سأل مجدّداً: في الاستجواب اتهام للشيخ سليم. ماذا يترتّب عليه سياسياً؟
قال غسان تويني: يترتّب عليه اننا نتهم شقيق رئيس الجمهورية بالتواطؤ مع الحكومة على المعارضة واستدراجها إلى صدام عسكري. وقد وقع الصدام العسكري الذي لم يكن استدراجاً كلامياً فقط، بل استدراج فعلي. حصل اطلاق نار علينا وقتل شخص.
وقّع كمال جنبلاط وكميل شمعون الاستجواب ـ وهما نائبان ـ وقرّرا ارساله في الغداة الى المجلس، في آخر ايام ولايته، لتسجيله في قلمه.
على الاثر، ناقش كمال جنبلاط مع كميل شمعون انضمامه الى لائحة الشوف ـ عاليه. وانتهى باتفاقهما ما اثقل لائحتهما مارونياً ـ درزياً في مواجهة ثقل مماثل في اللائحة المنافسة: مجيد ارسلان وبهيج تقي الدين مع سليم الخوري.
دانت اللائحة لحادث الباروك باكتمالها، مع انها لم تعلن منها كما عزم الزعيم الدرزي، ولا اقتصرت على المرشحين الاربعة للحزبين (كمال جنبلاط وانور الخطيب وغسان تويني وفضل الله تلحوق). انضم اليها المستقلان كميل شمعون واميل البستاني، وكان في عدادها ايضاً سالم عبدالنور وجورج عقل وشفيق الحلبي الذين ـ الى فضل الله تلحوق ـ خسروا، وربح الخمسة الآخرون. أُرغِم كمال جنبلاط على التحالف مع كميل شمعون كي يتمكن من منافسة لائحة «السلطان» سليم الذي اخطأ في مناورة تفريق المعارضين، فتسبّب في تجميعهم. بدوره زعيم دير القمر نجح في مناورة افضت الى ان يتحوّل من شخص لا يريده ندّه الدرزي الى حاجة ملحة للائحته كي تتمكّن من الفوز.
لأن اياً منهم لم يكن في وسعه تأليف لائحة مكتملة في الشوف ـ عاليه، كان الآخر قدره.