ما هي احتمالات نجاح التحول الديموقراطي والإنماء في ظل الديموقراطية في العالم العربي؟ تعبّر هذه المقالة عن الأمل بأنه مع شروع البلدان، التي أنهكتها الصراعات، في برامجها لإعادة البناء الاقتصادي، فإن الطريق الأمثل لتحقيق الإنماء يتضمن نمواً قوياً وعدالة اجتماعية، بالإضافة الى الديموقراطية، التي تشكل شرطاً أساسياً لذلك.
تتعدد التحليلات لأسباب الانتفاضات العربية المختلفة، التي انفجرت بعد الانقلاب على نظام حكم الفرد الواحد في تونس في كانون الأول عام 2010. فهي تشتمل على سلسلة كاملة من العوامل الاقتصادية، السياسية والاجتماعية المتداخلة، التي كانت تأخذ مع السنين منحىً تصاعدياً ضاغطاً نحو تحول ديموقراطي مرتجى في المنطقة.
تشير دراسات حديثة الى أن حالة من عدم الرضى على نوعية الحياة، متصاعدة ومنتشرة على نطاق واسع، قد تكون ساعدت في إشعال الانتفاضات. شعر الناس العاديون، ولا سيما أولئك المنتمون الى الطبقة الوسطى، بالإحباط بسبب تدهور مستويات معيشتهم الناتج من محدودية فرص العمل في القطاع العام، وضعف نوعية الخدمات العامة، وفقدان صدقية الحكومة.
تشدد دراسات أخرى على التأثير السلبي لحالة البطالة المتصاعدة، وترفعه الى مستويات عالية جداً، ولا سيما البطالة في أوساط الشباب، وخصوصاً أن البطالة التي تتخطى عتبة معينة تعتبر محفزاً مهماً للانتفاضات. لقد ساهمت هذه البطالة في إضعاف إمساك الأنظمة العربية بالسلطة والاستمرار «بالرهان السلطوي» – بمعنى قدرتها على تقديم وتأمين السلعة العامة وغيرها من التقديمات لقاء الاستغناء عن الحقوق والمشاركة السياسية. وحسب بعض الكتاب، بدأ «العقد الاجتماعي» العربي بالانكشاف.
أما اللامساواة، فإن الدليل على تأثيراتها يعتبر أمراً غير قاطع. فاتجاهات عدم المساواة في المدخول في المنطقة العربية تبدو أنها كانت ولا تزال في النسق ذاته في مناطق أخرى، ولم تتغير كثيراً مع مرور الزمن. لذلك فإن اللامساواة في الدخل يحتمل أن تكون قد أدت دوراً ثانوياً أو داعماً فقط في اندلاع الانتفاضات، على الرّغم من احتمال أنها قد زخمت من حالة اللامساواة العرقية وبين المجموعات المذهبية.
وقد رأى بعض الباحثين أن تدني الثقة بالمؤسسات السياسية عامل مؤثر في الانتفاضات العربية، كما أن توق المواطنين العميق والمتصاعد إلى الحرية والمشاركة السياسية في عالم يكتسب المزيد من الانفتاح، يتسم بأهمية موازية، إن لم نقل أكبر. وعلاوة على ذلك كله، عدم رضاهم بسبب شعورهم بالحرمان والاستبعاد بدرجة كبيرة من تقديمات الإنماء الاقتصادي.

يجدر عدم الترويج لقيام أو استمرار المؤسسات الأوتوقراطية تحت ذريعة الحاجة الى التعافي السريع


في سياق وجهة النظر هذه، كشفت أبحاث أجريت حديثاً أن الحريات المدنية والسياسية، والتحرر من الطغيان ومحاربة الفساد هي بالأهمية نفسها للمواطنين، كما العدالة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الهموم الاجتماعية ــ الاقتصادية.
ولكن لاحقاً، تسببت الانتفاضات بحركات مضادة عنيفة من جانب الطبقات العربية الحاكمة. ونتيجة لذلك، إذا استثنينا تونس (ولبنان وديموقراطيته التوافقية)، لم تكن الأنظمة الأوتوقراطية المترسخة جاهزة للسير بصورة جوهرية في طريق الديموقراطية الحقيقية، على الرغم من إطلاق إجراءات ليبرالية محدودة في بعض البلدان بعد اندلاع الانتفاضات.
إن مقاومة المنطقة العربية للديموقراطية ورفضها ليس أمراً فريداً. وهو واقع يعود الى العوامل نفسها التي ساهمت، وبدرجات متفاوتة، في استمرارية النظم الأوتوقراطية وإن بأشكال مختلفة. وهذه العوامل على وجه الخصوص هي: الثروة النفطية، النزاعات والتدخلات الخارجية من قبل قوى إقليمية وعالمية على حد سواء. وبالتحديد، أدّت البيئة الحاضنة للنزاعات في المنطقة، ولا تزال، دوراً أساسياً في إعاقة حركات محتملة في إقامة وتطبيق أشكال حكم ديموقراطية.
إن الصراعات الأهلية التي نشبت على أثر اندلاع الانتفاضات أدت الى تقوية هذه البيئة الحاضنة وتعزيزها. وكنتيجة حتمية، ارتفع منسوب التأثير السلبي للنزاعات على عملية التحول الديموقراطي، متغذياً من الانشقاقات المذهبية، وخاصة مع صعود الجماعات الأصولية وتسلمها السلطة، ما شكّل تهديدات وتحديات متصاعدة أمام أي حركة محتملة في هذا الاتجاه.
إذاً، ما هي آفاق الديموقراطية في العالم العربي؟
تتضمن العوامل المشجعة للتحول الديموقراطي في المنطقة مؤثرات حداثية (على سبيل المثال، نمو الطبقة الوسطى وتقدم مستويات التربية والتعليم وتحسين درجة المساواة بين الرجال والنساء)، وكل ذلك في ظل انفتاح المؤسسات الاقتصادية وتضارب مصالحها مع استمرار المؤسسات السياسية المنغلقة. أضف إليه تدني التأثير الريعي نتيجة تغير الأوضاع الاقتصادية المتحكمة بسوق النفط.
لكن بانتظار أن تحل الصراعات الكبرى (ومنها الصراع العربي ــ الإسرائيلي) بطريقة عادلة، فإن التأثيرات الإيجابية لتلك العوامل سوف تضعف، وبالتالي، فإن انتشار أشكال الحكم الديموقراطي في المنطقة سيظل محدوداً مع ما يترافق معها من إشكاليات إنمائية أوسع. ومهما كانت طبيعة تلك القرارات العادلة، ستؤدي فقط الى تعزيز العوامل الفاعلة في إضعاف أسس الحكم الأوتوقراطي العربي.
لكن، لماذا الحكم الديموقراطي يحتل الأهمية الأولى؟
علينا أن نعترف بعدم وجود أو غياب إجماع مشترك حول كيفية تأثير الأنظمة السياسية المختلفة على التنمية الاجتماعية والاقتصادية. لطالما طرحت فكرة أن المؤسسات الديموقراطية لا تؤدي بالضرورة الى نتائج اقتصادية أفضل، وإنه واقعياً، قد تؤدي بعض أشكال الحكم الأوتوقراطية الى إنماء متصاعد ومرجو. ولطالما اعتمدت كوريا في ظل الحكم ما قبل الديموقراطي كمثال يشرح وجهة النظر هذه.
وفي الجهة المقابلة، لطالما طرحت فكرة أن الحكم الديموقراطي هو في موقف أفضل لخدمة أهداف الإنماء المتوازن، وفي مرحلة إعادة البناء، في حال البلدان التي شهدت نزاعات.
يبدو هذا الطرح صحيحاً، وبالتحديد على مستوى صنع السياسات، كون المؤسسات الديموقراطية قادرة أكثر من المؤسسات الأوتوقراطية على تحقيق سياسات شفافة وقابلة للتوقع، وخلال مراحل تفويضية واضحة وسهلة المراقبة، خالية من عمليات عشوائية في اتخاذ القرارات. في هذا السياق، يجب التذكر أن أحد أهم عيوب الأنظمة السياسية العربية كان، ولا يزال، الإمساك والسيطرة النخبوية على الدولة، مع ما يرافقه من مستحقات وفوائد اقتصادية وغير متجانسة بشكل لافت لمصلحة الطبقة الحاكمة.
بغض النظر عن الموقف الذي يمكن تبنيه بالنسبة إلى المقارنة بين تأثير المؤسسات الديموقراطية وتلك غير الديموقراطية على النتائج الاقتصادية، تبقى الحقيقة الراسخة أن الديموقراطية والحرية هما مكونان أساسيان لرفاه الإنسان. فهما يترافقان ويتزامنان مع حالة من الاكتفاء الوطني ترتبط بعملية إنماء اقتصادية مستدامة وتقوم على المساواة التي تجسد العدالة الاجتماعية.
ختاماً، يبقى الأمل بعدم الترويج لقيام أو استمرار المؤسسات الأوتوقراطية تحت ذريعة الحاجة الى التعافي السريع والثابت، وذلك عندما تشرع الدول العربية، التي شهدت نزاعات، في برامجها لإعادة البناء. وإلا سيكون ذلك ادعاءً كاذباً بهدف العودة الى الأوتوقراطية أو حكم الفرد المطلق.