فيديو لا تتجاوز مدّته دقيقة ونصف دقيقة، ينتشر فجأة على وسائل التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم. النص سلس وظريف، المحتوى سريع ومبسّط إلى أقصى حدود، مع كل ما يستلزمه الأمر من مؤثّرات في الخلفيّة لإبقاء العرض مشوّقاً. «المبادرة اللبنانيّة للنفط والغاز» تتحدّث، تحذّر من رائحة «شي عم ينطبخ» في القطاع، ومَن أجدر من «المجتمع المدني النفطي» بمواجهة شبح الفساد الذي يلوح في الأفق؟
في اللحظات الأولى، يُسَرّ المشاهد، وقد يقرّر أن يضغط زر الإعجاب أو المشاركة كما فعل آلاف المشاهدين قبله. فربّما قرّرت المبادرة المدنيّة بهذا الشكل المشوّق والمتقن أن تعرض الثغرات التي شابت نموذج تلزيم أوّل بلوكين في البحر، بعد أن طغت اللغة التقنيّة والرتيبة على المقالات المطوّلة التي انتقدت المسار النفطي اللبناني.
سرعان ما تصاب بالذهول حين تصل إلى بيت القصيد، فتصبح اللغة المبسّطة وسيلة استهزاء بأربعة قوانين يعمل المجلس النيابي على إقرارها: الصندوق السيادي، الشركة الوطنيّة، مديريّة الأصول البتروليّة، وقانون التنقيب في البر. لتعلن المبادرة ببساطة: المطلوب تأجيل العمل على هذه القوانين.
وتكمن الصدمة الأولى في حقيقة أنّ غياب بعض هذه القوانين كان بالضبط أبرز انحرافات دورة التراخيص الأولى التي أفضت إلى تلزيم البلوكين 4 و9، وهي انحرافات صبّت في نهاية المطاف في مصلحة تكتّل الشركات التي حازت حقوق التنقيب والغاز في البلوكين. وبينما نراهن اليوم على استفاقة بعض النوّاب المتأخّرة لإقرار هذه القوانين، نرى «مجتمعاً مدنيّاً نفطيّاً» يبادر إلى المطالبة بتأجيلها.

يتفق عدد من
خبراء النفط مع المبادرة في إشارتها إلى «شي عم ينطبخ»


تبدأ حجج الفيديو بمسألة الشركة الوطنيّة، وبلغة ساخرة، لكن غير علميّة، تجري مقارنتها بمصلحة السكك الحديد، في إشارة إلى تأسيس الشركة قبل إيجاد النفط والغاز في البحر. ربما فات المشاهد غير الملمّ بتفاصيل الملف أنّه لا يوجد أي علاقة بين تأسيس الشركة وإيجاد كميّات تجاريّة في البلوكين 4 و9 الملزّمين للشركات. فهذا التلزيم يستثني كليّاً مساهمة الدولة عبر الشركة الوطنيّة حتى عند تأسيسها، بعد أن وُقِّعَت عقود التنقيب والاستخراج بغيابها. وربّما هذه كانت أبرز ثغرات المسار النفطي اللبناني التي لم يشر إليها «المجتمع المدني النفطي» في السابق!
أمّا وجود الشركة، فسيكون ضروريّاً للمساهمة في البلوكات الثمانية الباقية في دورات التراخيص المقبلة، لأن توقيع عقود تنقيب واستخراج في هذه البلوكات بغياب الشركة الوطنيّة سيعني مجدّداً عدم مساهمة فيها لنفس الأسباب.
فأي منطق علمي إذاً يفترض انتظار العثور على كميّات تجاريّة لتأسيس هذه الشركة؟ ولمصلحة من؟ خصوصاً أن المطلوب من القانون أوّلاً تأسيس الشركة كشخص معنوي يفرض مساهمة الدولة في دورات التراخيص، ولا يوجد أي ضرورة لتأسيس جسم تشغيلي كامل قبل وجود حاجة فعليّة له. كذلك إنّ عقود تقاسم الإنتاج نفسها تحمّل عادةً الشركات الأجنبيّة نفسها مسؤوليّة أعمال التنقيب، بينما تحجز الشركة الوطنيّة مساهمتها في حال وجود كميّات تجاريّة فقط، فضلاً عن الأبعاد الأخرى المتصلة بقطاعات خدماتية وصناعية مستقبلية يمكن أن توفر آلاف فرص العمل وتترك أثرها الاجتماعي ـ الاقتصادي.
لكنّ الذهول يصبح أكبر عند تقديم باقي الحجج بنفس اللغة الساخرة وغير العلميّة، فتلمّح إلى قانون مديريّة الأصول البتروليّة عند الحديث عن إنشاء مكاتب واستقطاب موظّفين من دون حاجة لهم، ما دام الغاز والنفط لن يُستخرَجا قبل سنوات عديدة. فإذا كانت أعمال الحفر ستبدأ العام القادم، بحسب الفيديو نفسه، ألا يفترض هذا وجود مديريّة الأصول البتروليّة التي تتولّى مهمات التدقيق في حسابات شركات النفط العاملة؟ خصوصاً أن تكاليف مراحل الاستكشاف ستُسترَدّ لاحقاً في مرحلة إنتاج النفط والغاز من الإنتاج نفسه. ولمصلحة مَن تغييب دور هذه المديريّة في مرحلة تستوجب فرض الرقابة على أعمال الشركات الأجنبيّة؟
وهكذا يتابع الفيديو اللغة المستهزئة بقانون الصندوق السيادي، الذي سينفق الأموال قبل مجيئها على حد قول المبادرة. ولا يبدو واضحاً ما المقصود هنا من هذه الإشارة الساخرة التي لا تمتّ إلى آليّات عمل الصناديق السياديّة بصلة. لكنّ الأكيد أن تأسيس الصندوق ككيان قانوني وآليّة عمل بضوابط معقّدة مسألة حسّاسة، تستلزم الجهد والوقت الذي لا يجب أن ينتظر إيجاد الاكتشافات التجاريّة.
في المبدأ، يتفق عدد من خبراء النفط مع المبادرة في إشارتها إلى «شي عم ينطبخ»، وهو ما أشاروا إليه سابقاً عند انتقاد نموذج التلزيم السابق، الذي تغاضى عن مسألة الشركة الوطنيّة وأغفل العمل على الكثير من الضوابط التي تحكم عمل الشركات. وقد يكون العمل على هذه القوانين المهمّة فرصة مناسبة لـ«المجتمع المدني» لمراقبة مسار إقرارها، كي تكون فعلاً فرصة لتصحيح الخلل السابق، خصوصاً أنّها كانت محل انتظار الكثير من المتابعين لأحوال القطاع.




من أجل الشفافيّة؟

منذ سنوات، ومع دخول لبنان حقبة إقرار المراسيم والتشريعات الناظمة لقطاع النفط والغاز، ولد على هامش القطاع مجتمعه المدني الخاص. استشاريّون وخبراء ومجموعات عمل خرجوا إلى العلن، بشعارات وعناوين تركّز معظمها على أهميّة الشفافيّة والتواصل بين صنّاع السياسات والرأي العام لبناء قطاع صحّي وسليم.
لكنّ نشاط هذه المجموعات الذي تركّز في جزء كبير منه على ورش العمل والاجتماعات مع الإعلاميين والجهات الرسميّة، لم يبذل أي جهد لنقد أو مساءلة النموذج النفطي الذي اعتمدته الدولة في التلزيمات، لا بل انطلق معظم الجهد في سبيل «الشفافيّة» من التسليم بهذا النموذج وتعريف الرأي العام به كإحدى المسلّمات.
خرجت «لوغي» LOGI (وهي اختصار «المبادرة اللبنانيّة للنفط والغاز») إلى العلن في ظل هذه الأجواء، وتعرّف نفسها بأنها إطار يسعى إلى «تشكيل شبكة خبراء لبنانيين في قطاع الطاقة العالمي وتأمين منصة لهم لتوعية واضعي السياسات والمواطنين اللبنانيين حول القرارات المفصليّة في قطاع النفط والغاز».
ولعلّ أهم الانتقادات التي طاولت «المجتمع المدني» في قطاع النفط والغاز (ومنه لوغي) تركّزت على تجاهل التدقيق والمساءلة في بنود المراسيم الناظمة للقطاع التي خرجت إلى العلن عام 2013، وهي المراسيم التي وضعت جانباً مسألة تأسيس شركة النفط الوطني، واعتمدت النموذج الذي جرى على أساسه التلزيم الأخير لاحقاً. ويأتي الفيديو الأخير لـ «لوغي» ليكمّل هذا السياق تحديداً، المطبّع لطريقة التلزيم الأخير للبلوكين 4 و9 بحسب هذه المراسيم، لا بل والساعي أيضاً إلى تأجيل أي بحث في تشريعات تصحّح هذا المسار مثل قوانين الشركة الوطنيّة ومديريّة الأصول البتروليّة.
وأخيراً، كان أكثر ما لفت النظر في الفيديو الأخير نفسه، أن يخرج في النهاية اسم تجمّع «كلّنا إرادة» كراعٍ لهذه المبادرة. و«كلّنا إرادة» ليست سوى مبادرة أطلقتها مجموعة من رجال الأعمال والمستثمرين اللبنانيين، أبرزهم النائب السابق روبير فاضل، تصف نفسها كـ «منظّمة مدنيّة للإصلاح السياسي في لبنان». وباستثناء هذا التعريف الفضفاض والفيديو الأخير (مدته ثلاث دقائق و20 ثانية)، لا يمكن العثور في صفحة المبادرة على الفايسبوك على أي أفكار تدلّ على أولويّات أو مبادئ أو أهداف هذا التجمّع الذي ينضم اليوم إلى منظّمات المجتمع المدني الساعي إلى «الشفافيّة».