بلعت إسرائيل «لسانها» ــ وهو للمفارقة طويل جداً ــ في أعقاب الموقف اللبناني الموحد، الرافض ادعاءاتها ملكية البلوك 9 البحري والثروة الغازية للبنان. لا تصريحات ولا تعليقات ترد من تل أبيب، رغم أن مادة التصريحات والمواقف اللبنانية مغرية إعلامياً، وهي أيضاً من ناحية إسرائيل استفزازية. يبدو أن قرار التراجع و«تغطية الرأس بالرمال» صدر بالفعل، وكأن شيئاً لم يكن.
مع ذلك، فإن شيئاً كان. ادعاءات وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، ملكية البلوك 9، تثير في حد أدنى علامتَي استفهام وتعجب كبيرتين: إذا كان البلوك إسرائيلياً، وثروة إسرائيلية مسروقة، فما الذي دفع تل أبيب وسياسييها ومؤسستها الأمنية إلى الصمت طوال السنوات الماضية؟! وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يمنع إسرائيل من أن تفعّل قوتها العسكرية أو تهدد بها، لمنع «التعدي» على حقوقها؟!
للمواقف اللبنانية، بالطبع، دور في مواجهة الأطماع الإسرائيلية وصدها، لكنها بطبيعتها ورداً إلى طبيعة المعتدي الإسرائيلي، غير كافية إن كانت بلا أسنان. نعم، إن كان بالإمكان المجادلة أنها كانت فاعلة في بلع الإسرائيلي لسانه قبل يومين في مرحلة ما بعد تصريح ليبرمان بملكية البلوك 9، لكنها لا تفسر بالتأكيد، وبلا مجادلة، بلع اللسان المستمر منذ سنوات حول هذا البلوك تحديداً وغيره أيضاً من البلوكات على طول الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، التي تدعي إسرائيل حقاً فيها.

مُنع الإعلام العبري عن تغطية المواقف اللبنانية الرسمية
وغير الرسمية


في العامين الماضيين، صدرت إشارات دالة على الموقف الإسرائيلي القاضي بـ«بلع اللسان»، وللمفارقة أيضاً «بلع اليد»: بمعنى الارتداع عن التصريح وكذلك الارتداع عن الفعل العدائي، ضد الثروة النفطية والغازية للبنان. من بينها، ما كشفت عنه صحيفة يديعوت أحرونوت، (14/ آب 2016) من أن «إسرائيل منعت التنقيب عن الغاز شمالاً، خوفاً من حزب الله». أكدت الصحيفة في حينه، أن الحكومة الإسرائيلية أصدرت قراراً بمنع شركتي «نوبل انرجي» الأميركية و«ديليك» الإسرائيلية، صاحبتي امتياز التنقيب واستخراج النفط والغاز في إسرائيل، من التنقيب عن الغاز في حقل «ألون دي»، الذي قالت إنه يتداخل في جزء منه مع الخريطة المائية المعلنة من قبل لبنان، رغم أن الحقل بحسب الخريطة الإسرائيلية يكاد يقع بشكل كامل ضمن الحدود المائية لفلسطين المحتلة.
بحسب الصحيفة، حقل ألون دي: ليس بمنأى عن منطقة الخلاف بين إسرائيل ولبنان، و«إذا جاءت عمليات التنقيب إيجابية، ووجدت كميات من الغاز في الحقل، كما تشير الدراسات، فسيشعل ذلك صراعات مع اللبنانيين، وهذا هو السبب الذي منعت بموجبه عمليات البدء بالتنقيب».
مضمون كلام ليبرمان وتوقيته، أي بعد صمت دال على إذعان للإرادة اللبنانية، يشيران الى جملة حقائق وإلى وجهة تقدير تفرض الحذر. من جهة، ظهر أن الخريطة اللبنانية للثروة الغازية والنفطية، عرضت على طاولة النقاش لدى صناع القرار في تل أبيب، مع تأكيد وجود مادة «تنازع»، أقله من وجهة النظر الإسرائيلية، على حقول غاز وبلوكات، تدّعي إسرائيل ملكيتها أو ملكية جزء منها. ومن جهة ثانية، رغم ذلك، جاء القرار بالامتناع عن المطالبة بـ«الحق»، بل وأيضاً عن التصريح بذلك، طوال السنوات الماضية.
البحث بمفعول رجعي يشير إلى أن رفع الصوت الإسرائيلي كان أجدى لتل أبيب، في حال قررت إطلاق حالة التنازع مع لبنان حول الحقول الغازية الجنوبية، قبل التوقيع على رخص التنقيب واستخراج الغاز والنفط مع ائتلاف الشركات الثلاث في لبنان، بل أيضاً قبل إطلاق دورة التراخيص قبل أشهر، لمنع الشركات من تقديم عروضها. هل هذا يعني أن ليبرمان كان يستدرك ما فاته، أم أنه يشير إلى أقوال وأفعال إسرائيلية مقبلة، وأن تصريحه هو أول الغيث؟ سؤال يستأهل في حد أدنى قدراً من الحذر، من ناحية لبنان ومسؤوليه ومؤسساته، وبطبيعة الحال، من قبل مقاومته وسلاحها.
وإذا كان من الصعب الفصل بين التطورات الداخلية اللبنانية، و»جس النبض» الإسرائيلي حيال الثروة الغازية، إلا أن الربط من حيث التوقيت بين الأزمة الداخلية اللبنانية والإعلان عن الأطماع، واضح جداً. الواضح أن أزمة «فيديو باسيل» شجعت على تظهير الأطماع، وإن كلامياً في المرحلة الحالية، وربما كان من شأن تفاقمها، دفع الإسرائيلي إلى المزيد من تظهير هذه الأطماع، وإلى الحد العملياتي ربما، لا مجرد إطلاق المواقف، وأقله من ناحية نظرية.
مع ذلك، لدى الإسرائيلي خطأ في التقدير، في حال صحت أوجه هذه التفسيرات لتوقيت تصريحات ليبرمان وإعلانه ملكية البلوك 9. قمة هذا الخطأ هي الربط ما بين أزمات داخلية لبنانية، لحزب الله مكان فيها أو على هامشها، أو هو معنيّ بتداعياتها، وبين قدرة إسرائيل على تمرير وفرض مصالحها. جوهر هذا الربط، ربما، تقدير إسرائيل أن هامش المقاومة في تفعيل قدراتها العسكرية الردية الدفاعية على أفعال عدائية إسرائيلية، مقلصة في الأزمات الداخلية.
خطأ إسرائيلي قد يفضي، كما غيره من الأخطاء التقديرية، إلى أفعال غير محسوبة، تجر بدورها رداً من قبل المقاومة، مهما كانت الظروف الداخلية متأزمة في لبنان. ذلك أن طبيعة الاعتداء الإسرائيلي ومكانه هو الساحة اللبنانية، الأمر الذي يفضي إلى رد مقابل لم يكن في حسابات التقدير الإسرائيلية الابتدائية. وهو بدوره ربما يفسر «بلع اللسان» اللاحق بعد اكتشاف الخطأ، ويفسر أيضاً أن بيان حزب الله، فقط، على تصريحات ليبرمان، وحده خرق سياسة «بلع اللسان» الإسرائيلية في اليومين الماضيين، فيما مُنع الإعلام العبري، وامتنع، عن التغطية الإعلامية الخبرية للمواقف والتعليقات اللبنانية الرسمية وغير الرسمية، الرافضة لأطماع إسرائيل وتصريحات وزير أمنها.