من بين قلة لم تدلِ بدلوها حيال ازمة المرسوم، الناشبة بحدة بين الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي، اكتفى الرئيس امين الجميّل بمراقبة السجال الدائر، وتشعّب الاراء وتناقضها حيال صواب وجهة النظر هذه او تلك. يجد اولاً مرسوم منح ضباط دورة 1994 اقدمية سنة «مطاطاً كونه لا يرتب للحال اعباء مالية، الا انه يمهّد لها. مقاربة الازمة ليست ابيض او اسود».
يضيف: «من الطبيعي ان يكون ثمة خلاف بين رئيسي الجمهورية والمجلس ما دام كل منهما ينطلق من تبرير معارض للآخر، الا ان حكمة المسؤولين تحتّم ان لا يدفعوا بالمشكلة، ومن ورائها البلد، الى مأزق. يقتضي تفادي الجدل البيزنطي من حول المرسوم التوافق المسبق عليه لتجنيب الداخل مشكلة اضافية، والمؤسسة العسكرية اي تأثير بسببه، وتالياً تعليق مرسوم الترقيات. ما ينبغي الاحتكام اليه هو الحكمة، وليس مجلس شورى الدولة او مجلس النواب».
يقول الرئيس السابق للجمهورية: «لبنان لا يُحكَم سوى بالتوافق الذي يكتمل بشرط لازم له، هو ان يكون تحت سقف الدستور، الذي تنبثق منه الآلية الكفيلة بالوصول الى التوافق. لا توافق بلا مظلة الدستور. كما ان الدستور ليس كافياً دائماً لايجاد الحلول في معزل عن التوافق. كلاهما شرطان باتا يتحكمان بمسار العلاقة بين السلطات الرسمية، رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة ومجلس الوزراء».
ليست مشكلة مرسوم دورة 1994 سابقة في خلافات المسؤولين. ولا كذلك اختلافهم على تفسير الدستور وتطبيق بنوده، عندما يبدو كل منهم في موقع كما لو انه مناوىء للآخر وعلى طرف نقيض منه. ليست ايضاً ازمة ترتبط بالعهد الحالي وحده. معظم العهود الرئاسية، قبل اتفاق الطائف وبعده، يضيف الجميّل «مرّت في ازمات دستورية متشعبة بين رئيسي الجمهورية والمجلس، او بين رئيسي الجمهورية والحكومة، او بين رئيسي المجلس والحكومة. طوراً تنجم عن خلافاتهما المباشرة، وطوراً عن اسباب خارجية. الا ان الوصول الى حلول لمشكلات كهذه، يقتضي التزام شرطي احترام احكام الدستور والتوافق. ما يرافق ازمة المرسوم في الوقت الحاضر اكتفاءٌ بالخلاف على تفسير مواد دستورية، كالمادة 54، دونما الاخذ في الحسبان حاجة الجميع الى التوافق».

بين تجربتي مرسوم 1994 والمراسيم الجوالة: التوافق اولاً

يتحدّث الرئيس السابق للجمهورية عن ازمة دستورية جبهها عهده بين عامي 1986 و1987، ترتبت على تعذّر التئام مجلس الوزراء بسبب ضغوط سورية سياسية وامنية، حالت في هذين العامين دون اجتماع مجلس الوزراء في قصر بعبدا. في الجانب السياسي من الازمة تلك مناوأة الجميّل «الاتفاق الثلاثي» واسقاطه في كانون الثاني 1986، ما آل الى قطيعة مع دمشق ومقاطعة رئيس الحكومة رشيد كرامي ووزراء المعارضة القصر الجمهوري. اما الجانب الدستوري منها، فهو شلّ مجلس الوزراء وتعذّر انعقاده، ما اوجد فراغاً في ادارة الحكم. حينذاك نشأت فكرة «المراسيم الجوّالة». لم تسوِّ الخلاف السياسي بين الجميّل وشركائه في الحكم، ولا بينه وسوريا في ظل خطوط تماس اعادت تقسيم البلاد. الا انها سهّلت استمرار آلة الحكم بالحدّ الادنى وتسيير عمل الحكومة.
لم تكن، حتى ذلك التاريخ، ثمة سابقة لمراسيم جوالة. ولا بدت اجراءً دستورياً من دون اجتماع مجلس الوزراء بنصابه الكامل واتخاذه قراراته برئاسة رئيس الجمهورية، في ظل دستور ما قبل اتفاق الطائف. لم يتخلَّ اي من افرقاء الحكومة عن تصلبه حيال مواقفه السياسية، وبينهم مَن لا يزال في صلب اللعبة السياسية اليوم كالوزيرين حينذاك (الرئيس) نبيه برّي ووليد جنبلاط.
يقارب الجميّل أزمة المرسوم بين عون وبرّي ــــ وكلٌ منهما يتمسك بتطبيق الدستور ويجهر بالاصرار على الاحتكام اليه ـــ بالتجربة التي خبرها عهده عبر المراسيم الجوالة: «بُنيت على التوافق الذي لا يزال يفتقر اليه حل ازمة مرسوم دورة 1994. يتشبث كل من رئيسي الجمهورية والمجلس بموقفه وصواب وجهة نظره في تفسير الدستور، بيد ان ما يحتاجان اليه هو التوافق. من دون تخليَّ انا والرئيس كرامي وقتذاك عن مواقفنا السياسية، اوجدنا معادلة زاوجت بين التوافق واحكام الدستور في سبيل تسيير الحكم، واتخاذ القرارات المنوطة به تحت سقف القانون. بسبب تعذّر التئام مجلس الوزراء، اتفقنا على ان لا يصدر مرسوم ــــ اياً تكن اهميته ــــ لا يصير الى التوافق عليه سلفاً. راحت المراسيم تجول بين الوزراء. يوقّعها المختصون منهم عملاً بالمادة 54 بعد ان تكون دارت على الوزراء جميعاً. يطلعون عليها ويوافقون، ثم يصير الى امضائها من الوزراء المختصين ومن الرئيس كرامي ومني، كما لو ان مجلس الوزراء اجتمع فعلاً، بينما الواقع ان سوريا كان تمنعه من ان يفعل. أوجدنا ملاءمة بين احترام الدستور الذين يوجب اجتماع الحكومة، وبين واقع ان اجتماعها متعذر بل مستحيل، ما ينبغي بازاء ظروف استثنائية كهذه التوافق على سبل انتظام آلة الحكم واتخاذ القرارات الضرورية».
يضيف الجميّل: «فعلنا ذلك ايضاً في معالجة المراسيم الاشتراعية التي اصدرتها حكومة الرئيس شفيق الوزان، ثم طالبت حكومة الرئيس كرامي تحت وطأة الحرب السورية على عهدي بالغائها كلها دفعة واحدة، فانتهى التوافق الى تعديل بعضها. القياس نفسه في علاقتي والرئيس كرامي مع زيارات الموفدين الدوليين. سألني مرة جان كلود ايميه موفد الامين العام للامم المتحدة خافيير بيريز دوكويار في عشاء غير رسمي عن سرّ خلافاتنا، الرئيس كرامي والمعارضة وانا، على السطوح، قبل ان يضيف: بعدما كنت اسمع روايتك للحلول، كنت اذهب اليه فيردّد امامي كلاماً مطابقاً تقريباً لما قلته انت، بما في ذلك مفاتيح الكلمات. كلامكما طبق الاصل. ما سرّ ذلك؟ اجبته: الدرّاج. سأل: لم افهم؟ قلت: ما ان تنتهي المقابلة بيني وأي زائر دولي، يحمل الدرّاج المحضر فوراً الى الرئيس كرامي كي يطلع عليه. يرتاح الى ما اذكره، فيتبناه ويضيف اليه، فيصير موقفاً رسمياً قال به رئيسا الجمهورية والحكومة، وإن انقطعا عن الاجتماع او توقفت اجتماعات مجلس الوزراء. كانت تلك مواقف اتخذت بالتوافق، وأُخضعت الى سقف الدستور في احلك الظروف حتى. ثقة الوزراء حلفاء سوريا بالرئيس كرامي والمامه بخفايا اللعبة، ومونته عليهم، اتاحت له تقدير المواقف دونما ازعاج سوريا او اثارة قلقها ومخاوفها. كان بدوره يتوافق مع الوزراء عادل عسيران وسليم الحص ونبيه برّي ووليد جنبلاط عليها. في حصيلة التجربة تلك، بشقيها المحلي وفي العلاقات مع الخارج، لم يكن ثمة قرار او موقف لا يسبقه توافق عليه ويتطابق مع احكام الدستور».