أحد الشبّان، وهو يعدّ نفسه منخرطاً في العداء لإسرائيل، كان يُحاجج قبل مدّة في أنّ معنى التطبيع هو في تبادل الطوابع البريديّة ضمن معاملات مع العدو! هذه ليست طرفة. عموماً، بعيداً عن المراهقة، وبعيداً عن إيجاد سلوى تملأ فراغ الوقت، إنّما ما التطبيع؟ ما المقاطعة؟ ما الفرق بينهما؟ ما حكاية ذلك في السياسة والثقافة والفن والرياضة؟ ما هذه الفوضى التي عصفت، أخيراً، بهذه المصطلحات! كثرت المنابر، مَن مع مَن، ومَن ضدّ مَن، وكيف ولماذا وأين ومتى وهكذا! هل هناك جهة واحدة مُعيّنة، ذات اختصاص، تُحدّد المعايير، أمّ أنّ المسألة متروكة لاجتهادات شتّى؟
إن كان هناك مِن جهة واحدة، فمَن هي؟ محليّة أم أقليميّة؟ القوانين اللبنانيّة أم قرارات جامعة الدول العربيّة؟ ماذا لو حصل اختلاف بين الجهتين؟ ماذا لو باعت «الجامعة» القضيّة، وهي باعتها كما نألف مِن زمن بعيد، ثم ماذا لو عدّلت غداً، أو نسخت، أو ربّما لحست، قراراتها السابقة؟ هذا يحصل. أمّا إن كان العمل بالاجتهادات المفتوحة، فهذا يعني، بالضرورة البشريّة، اختلافات شتّى أيضاً، وبالتالي سيكون مِن الصعب على أحد أن يلوم أحداً. القانون؟ نجده لدى مكتب مقاطعة إسرائيل، التابع لوزارة الاقتصاد والتجارة، ويصل في نصّه إلى الآتي: «حظر التعامل مع الشركات والمؤسسات الأجنبيّة وفروعها والأشخاص الطبيعيين، إذا كان لتلك الشركات والمؤسسات شركة أو مصنع فرعي أو رئيسي أو مصنع للتجميع في إسرائيل، وكذلك امتلاك أو مساهمة في مؤسسات أو أعمال إسرائيليّة داخل إسرائيل أو خارجها، وأيضاً تقديم أيّ خدمة استشاريّة أو مساعدة فنيّة إلى أيّ مؤسسة أو أعمال إسرائيليّة». مجرّد استشارة! باختصار، هذا يعني، اليوم، مقاطعة العالم برمته تقريباً وعلى كلّ صعيد.

هل هناك جهة
ذات اختصاص
تحدّد المعايير أم المسألة متروكة لاجتهادات شتّى؟
هل هذا ما يُراد؟ لا بأس، إنّما هذا هو القانون. أساساً هو غير معمول به الآن، بل، وبعودة إلى منتصف القرن الماضي، يُمكن الجزم أنّه لم يُطبّق حرفيّاً. دائماً، كانت مساحة التطبيق في مدّ وجزر بحسب «الوضع السياسي الراهن». يُحكى عن المقدرة، عن الاستطاعة، وهذا مبدأ واقعي، إنّما يبقى السؤال: مَن يُحدّد هذه الاستطاعة؟ ماذا لو أن استطاعة فلان تتفاوت مع استطاعة علان؟ هذا يُمكنه الاستغناء عن الهاتف الذكي، مثلاً، بينما لا يُمكنه أن يُقاوم رغبته في تناول «الحليب المكثّف المُحلّى»... فيما آخر تتعاكس استطاعته القائمة على التعارض في الرغبة. سيخرج مَن يقول لنقاطع سروال «الجينز» ذاك، فيما هو، أصلاً، مِن محبي ارتداء الكتّان، وبالتالي المسألة سهلة عنده، لكنه هو نفسه لن يُقاطع الأفلام السينمائيّة إيّاها، نظراً إلى كونه «مدمناً» عليها. سيقول إنّها تعني حياته. لا يعود مهماً تصنيفه بالأهبل أو الحكيم. إنّه الآن يقول ذلك وحسب. ما المعيار؟ المزاجيّة أم الرغبة الذاتيّة عند المتصدّي؟ ما التأويل الذي سيسود، وكيف؟ هل تكون المقاطعة بخلفيّة اقتصاديّة فقط، أم أنّها شاملة؟ لن يرغب أحد في التورّط بإقناع هذا أو ذاك، وكذلك لن ينفع الإرشاد إلى «الصواب»... وخاصّة أنّنا في بلاد اتفق الجميع فيها على التعايش مع «صواباتها» المتعدّدة. ورطة! نحن في منطقة مِن العالم لا تُنتِج اليوم البدائل، فما العمل؟ لحظة، القانون يحظر التعامل مع بواخر وناقلات رست مرّة في ميناء على الأراضي الفلسطينيّة (المحتّلة، كلّها). هل واضح معنى هذا؟ هذا هو القانون. الجُزء المحتل عندنا هو ليس كذلك عند أكثر العالم. الإيجابيّة الأساسيّة في هذا النقاش الدائر، هذه الأيّام، هي إعادة الحديث عن أصل المشكلة في هذه المنطقة. أجيال كبرت ولم تعرف أنّ هنالك مشكلة، بهذا العمق، وها هي تعرف اليوم. أقلّه هنالك فرصة. مسألة القدس العاصمة زادت أخيراً في التزخيم. إنّما تبقى آفة الفوضى التي، بغير ورشة ناضجة ومع مرور الوقت، تنقلب سُخفاً. هذا المسار مألوف لدينا.